المتنبي شاغل عباس محمود العقاد

02 أغسطس 2022
02 أغسطس 2022

ظل المتنبي شاغل الناس ليس في عصره فقط، إنما امتد هذا الانشغال ليشمل العصر الذي نعيش. وإن كانت كتب عديدة قد ألفت حول شعره في ما مضى، بين منتقد حد الاتهام بالسرقة كما فعل صاحب " الإبانة عن سرقات المتنبي"، ومعجب حد الإعجاز البلاغي كما فعل المعري في كتابه "معجز أحمد" وكما فعل كذلك الثعالبي في كتابه الكبير" يتيمة الدهر" حيث خصص القسم الأكبر من أحد أجزاء هذا الكتاب لأبي الطيب ( أي القسم المتعلق بشعراء حلب).

في العصر الحديث لا بد أن ثمة كتب كثيرة حول شعر أبي الطبيب وهي كتب لا يمكن أن تتوقف عند حد، بل أن المتنبي استطاع أن يغزو حتى النوع الروائي الحديث، حين ألف حسن أوريد رواية بعنوان "رباط المتنبي" متخيلا فيها المتنبي يبعث من جديد في مدينة الرباط فيواجه مجموعة من المفارقات، من ضمنها أنه يشاهد مظاهرة في الشارع فيستغرب منها، كما يطرق عليه الجيران الباب لأنه يقرأ الشعر بصوت عال، ليعيش بالتالي غربة في العصر الراهن فيتمنى أن يعود إلى ما كان عليه. شغل المتنبي الكتاب بصورة يصعب حصرها، وفي كل العصور، بل أننا نجد في متقارب ( عشرينيات القرن الماضي وما بعده) بعد أن أصدر طه حسين كتابه "مع المتنبي" اكتشفنا كنزا من المقالات تركها عباس محمود العقاد عن المتنبي، هذه المقالات قامت بجمعها مجلة العربية وأصدرتها في كتاب وزع مع أحد أعدادها. والعربية مجلة ثقافية فصلية تصدر بالمملكة العربية السعودية.

هذه المقالات كتبها العقاد في عشرينيات القرن الماضي، وكان العقاد يسمي المتنبي بـ( الشاعر العظيم) أو ( الرجل الفرد الذي نظم في ديوان ما تزنه الحياة من تجارب). ومقالات العقاد لم تكن تعريفية ( أنطولوجية) بل تشكل في مجملها سيرة كاشفة لأعماق تجربة ( شاغل الناس و شاعر الدهر). وهي مقالات تحاول أن تبحر - وإن بصورة صحفية مقالية - في تفاصيل حياة وشعر المتنبي.

يقول في إحدى المقالات: ( مبلغ الأصالة في تفكير المتنبي يستوحى من مزاجه ومن ثقافته بدافع من طبعه) وهناك كذلك حديث عن حياته، من أمثلة ذلك الحديث المنصف عن والد أبي الطيب الذي لم يكن سقاء كادحا فحسب، إنما استطاع أن يربي ولده تربية علمية: ( روي عن أبيه أنه كان رجلا كريما كادحا، يحسن القيام على تربية ابنه، ويدفع به إلى أساتذة عصره وأطراف البادية من حوله، لتقويم لسانه وتهذيب فكره). كما أن عظمة المتنبي تكمن كذلك في عصاميته، فهو لم يفخر قط بنسبه بل بنفسه: (لابقومي شرفت بل شرفوا بي - وبنفسي فخرت لا بجدودي) ومن أهم عناوين هذه المقالات التي تركها عباس محمود العقاد: ( فلسفة المتنبي، فلسفة المتنبي وفلسفة نيتشه، شخصية المتنبي في شعره، ولع المتنبي بالتصغير...الخ)...وهناك ردود على مجموعة من الكتّاب. من أمثلة ذلك رد العقاد على طه حسين، الذي ذكر أن المتنبي قصد كافور، فرد عليه العقاد:( إن المتنبي مكره لا حيلة له فيما صنع، وإنه لم يكن له بد من قصد كافور بعد أن هموا بقتله في جوار سيف الدولة مرة وبعد أن رخص سيف الدولة في قتله مرة أخرى، وبعد أن شجوا رأسه بمحضر الأمير مرة ثالثة، وبعد أن علم أن ذهابه إلى بغداد أو الكوفة غير مأمون ولا مأمول فليكن بعد ذلك كله أحكم الحكماء وأصدق الطامعين، فما هو إلا مدفوع على الرغم منه كما قال: (ومدفوع إلى السقم السقيم) بل أنك حين تتصفح حياته وتدرس أخلاقه وتستقري هذه الكبرياء في شعره وفيما روي عنه فيما كان بينه وبين سيف الدولة وعضد الدولة وغيره ممن اتصل بهم لا تجد أثرا للكبرياء الممقوتة التي تحط من قدر صاحبها وتلحقه بالمغرورين الذين يتعالون في غير علو ويفخرون بغير ما سبب فخر، إنما تجد عظمة أدبية واعتدادا بالنفس وصونا لكرامة الأدب والأديب عن الصعلكة والمهانة ففرض على الناس احترامه وفي مجالس الملوك والأمراء لا يلقي شعره إلا جالسا، وذلك تكريما للأدب وللشاعر).