اللغة.. أطوارها وتفاعل العماني معها

12 فبراير 2024
12 فبراير 2024

(الشعر ديوان العرب).. توصيف دقيق وتعبير مُحْكَم، ودلالته أعمق من حصرها في العرب وشعرهم، فهي تنطبق على اللغة عمومًا عند كل الشعوب، والأحرى أن يقال: اللغة سجل الشعب. إن أثر اللغة على الإنسان عميق، فهو يظهر في لهجتنا المتداولة، وفي أسماء الناس والأمكنة والأدوات والمصطلحات ونحوها. وكما أن اللغة تلقي بظلها على الاجتماع البشري؛ فإنها هي أيضًا ينعكس عليها إشعاع المجتمع والدين. فمن يستقرئ اللغة في عمان يجد الكثير من الأسماء والمصطلحات مشبعة بمفاهيم إسلامية، فما يتعلق بالتشريع لم يكن معروفًا قبل الإسلام. نعم؛ هناك كلمات كانت موجودة، بيد أنها لم تكن تحمل المفهوم الذي ضخّه الإسلام فيها، وقد استأثر المجتمع العماني بمصطلحات ومفاهيم نتيجة ثقافته وبيئته مثل بعض ما يتعلق بالنظام السياسي والمنظومة الزراعية.

العمانيون في العصر الإسلامي.. مِن أوائل مَن عُني باللغة العربية، فأغنوها بإنتاجهم؛ إبداعًا ووفرةً، مثل: الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) واضع العين أول معجم لغوي، ومقعّد عروض الشعر، والربيع بن حبيب الفراهيدي(ت:171هـ) الذي اهتم بغريب اللغة في مسنده، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد(ت:285هـ) مقيّد شوارد آداب العرب في كتابه الكامل في اللغة والأدب، وأبي بكر محمد بن الحسن ابن دريد(ت:321هـ) صاحب جمهرة العرب، وابن الذهبي عبدالله بن محمد الأزدي(ت:456هـ)؛ له الماء أول معجم لغوي طبي، وأبي محمد عبدالله محمد بن بركة البَهلوي(حي:342هـ) مؤلف «الجامع»، قال فيه الأستاذ الأزهري محمد حسام الدين: (هو إمام مجتهد مستقل بتأصيل الأحكام، لم أرَ بيانًا أشبه ببيان الشافعي من بيان هذا الشيخ، فهو كأنما ينظم الدر وينثر الحكمة)، وسلمة بن مسلم العوتبي(ت:ق6)؛ له معجم «الإبانة في اللغة»؛ الذي يعتبره أحمد بن سعود السيابي مضارعًا للمعاجم التأسيسية، وناصر بن جاعد الخروصي (ت:1263هـ) مؤلف «السر العلي في خواص النبات بالتدبير السواحلي»؛ الذي يحكي قصة تعايش العماني لغويًا مع مجتمع شرق إفريقيا. وأما الشعر فيكاد ينمو كالشجر في عمان. وفي عصرنا.. أورقت شجرة الأدب العمانية بمختلف ألوانه الحديثة. هكذا تعامل العماني مع اللغة العربية؛ بوصفها علمًا له قواعده وأدبًا له فنونه، والذي جاء مع النهضة العظيمة في العلم والحضارة التي أحدثها الإسلام في العرب والعالم.

عمان.. قطنتها شعوب عديدة تركت أثرها عليها، وأحدثت نشاطًا لغويًا بها على مر العصور. وتأثير الدين على اللغة لم يبدأ في الحقبة الإسلامية، بل هو غائر في التأريخ. والمجتمع العماني بأصله متدين، فكان للأديان المنتشرة بالبلاد قبل الإسلام أثرها عليه. لقد تتبعت ذلك بالبحث منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، من خلال أسماء الأمكنة والمصطلحات التي أحسبها عمانية الأصل، بل حاولت أن أكتشف شيئًا من لغة تلك الحقبة الغابرة، فتوصلت إلى مجموعة من أسماء الأمكنة متأثرة بالدين في وضعها كنزوى وكدم وسمائل وسلوت وني صلت. فنشرت بحثًا بها بعنوان «اللغة السلوتية» في مجلة «لسان العرب» التي يصدرها علماء باللغات القديمة. حاولت أن أتوصل إلى عدد من كلماتها بالمقارنة مع المعجم السومري، بالإضافة إلى تحديد بعض سماتها اللغوية، مستفيدًا من كتاب «ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الإفروآسيوية» لعبدالمنعم المحجوب.

ذهبت في مقالي إلى أن بعض الكلمات العمانية دخلت إلى المعجم السومري، لأني أرى بأن آباء السومريين خرجوا من عمان، ومما جاء فيه: (ومن الدلائل كذلك على أن السومريين خرجوا من هذه المنطقة أنه بالرجوع إلى قاموس اللغة السومرية وجدتُ العديد من الكلمات التي لا يزال أهل هذه المنطقة يتكلمون بها أو محفوظة في أسماء الأماكن حتى الآن. وربما يقال: لماذا لا تكون هي من ضمن الكلمات العربية التي تطورت عن السومرية، وكما يقول عبدالمنعم المحجوب: إن الغالب الأعم من مفردات العربية إنما هي سياقات تركيبية لمقاطع سومرية وهذا الاستقراء صحيح، وذلك لأن بأصلهم وحضارتهم عاشوا في الجزيرة العربية والعراق، وتفاعلوا معها، وكانوا من الأقوام الذين دخلت لغتهم ضمن اللسان العربي، ولكن ذلك لا ينفي أن السومريين أيضًا تضمّن لسانهم من لغة أجدادهم في مجان... لاسيما؛ أن كلمات تستعمل الآن في هذه المنطقة دون أن توجد في اللغة العربية الحديثة «الفصحى» أو تستعمل في اللهجات العربية).

الجغرافيا أيضًا رسمت بريشتها على لوحة اللغة.. فقد استعار العماني أسماء أمكنته من بيئته، غرّد محمود بن سليمان الريامي على حسابه في تويتر، بتاريخ: 27/ 12/ 2022م قائلًا: (من فطنة الأجداد.. أن أغلب اشتقاقات المدن في مسقط وغيرها مرتبط بالماء ونزول الأودية، فالخوض.. من خوض الوادي، والسيب.. من انسيابه وانبساطه، والخوير.. تصغير لخور الماء، والوطية.. من نزول مستوى المنطقة، وروي.. فعل أمر من روى الماء، ومطرح.. طرح المرازيب والشعاب. وهلم جرّا).

ومن بصمة البيئة.. التسمية بأشجار البراري كالغافات والغاف والغافتين والغافة، لشيوع هذه الشجرة في عمان، حتى عرفت بأرض الغاف. وسميت مدينة الحمراء في داخلية عمان باسمها هذا لوفرة التربة الحمراء بها، وهي تربة ذات خصائص مفيدة، فهي مثلًا تدخل في صناعة الفخار لتُكسِب الأواني صلابة.

هذه الظاهرة.. لا تقتصر على اللغة العربية، وإنما هي ظاهرة عامة في اللغات، وتعم كثيرًا من الأماكن والأسماء والمصطلحات. وكانت موجودة بعمان في «اللغة السلوتية» القديمة، ككلمة «سر/ صر»، والتي تعني سال وصَبَّ، ومنها أرض السر «محافظة الظاهرة»، وهي منطقة واسعة تشمل عدة بلدان، سميت بذلك لأن السيول تسيل على بطحائها. ومثلها: صور والصير.

إن الاجتماع البشري دائم الاحتكاك باللغة، ويمكن سبر تفاعلهما عبر الحقب المختلفة، مع دراسة عوامل التأثير والتأثر كالدين والسياسة والهجرات، وهذا جانب بكر ينبغي أن يعتني به علماء اللغة وأقسام اللغة بالجامعات ومجامع اللغة العربية. وأقترح هنا خمسة أطوار كبرى مرت بها اللغة في عمان:

- طور ما قبل الكتابة الأبجدية.. ولعل محاولتي المتواضعة ببحث «اللغة السلوتية»؛ الذي أشرت إليه، تشكّل مدخلًا لهذا الطور، حيث وضعتُ مسردًا بحوالي 70 كلمة صنفتها بأنها تعود إلى تلك الحقبة. فمثلًا؛ شاعت فيها إضافة المقطع «كِ/جِ/قِ» إلى بعض الأماكن، كلها تستعمل بمعنى الأرض، وإنما اختلف نطقها بسبب التصويت بحسب اللهجات، وكذلك تصويت المقطع بمده ياءً أو ألفًا؛ ومنها: كيد وسيجا وقيقا وإزكي.

- طور ظهور الكتابة الأبجدية.. تطورت الكتابة مكوِّنة الخطوط القديمة، فدخول الخط يستتبعه تطور في اللغة، وهذا من المؤمل معرفته بفك النقوش المسندية المتناثرة في أماكن عديدة بعمان؛ خاصةً في جبالها.

- طور الهجرات العربية إلى عمان.. فمن الوارد أنها أثّرت على الثقافة اللغوية، ومنها أسماء الناس، فقد كانوا في جنوب شرق الجزيرة العربية كعمان وحضرموت يستعملون أسماء مثل: يفع ريام ومعديكرب وجرو وشعر أوتار، ولمّا هاجر الأزد من غرب الجزيرة العربية إلى عمان بدأت تظهر فيها أسماء كعمرو وعبد ونصر، وهذا التحول حصل بعد الميلاد؛ خاصةً منذ القرن الثالث الميلادي.

- طور الإسلام.. فانتشار الإسلام ودخول العمانيين فيه شكّل تحولًا كبيرًا في عموم اللغة، وأهمها في عمان الانتقال من «خط المسند» إلى «خط الجزم» ابن الكتابة الآرامية، وبهذا الخط كُتب المصحف أول مرة، ثم تطور إلى الخطوط التي نكتب بها العربية الآن.

- الطور الحديث.. حدث تحول كبير في بُنية المجتمع العماني مع اكتشاف النفط والانتقال إلى الدولة الحديثة بحكم السلطان قابوس بن سعيد عام 1970م، وهذا أمر ملاحظ، بل يكاد يرصده المختص بدراسة اللغة يوميًا، مع حركة التثاقف العالمية التي أوجدتها الصحافة والمطابع والإذاعة، وأخيرًا الإنترنت.