الكاتب يطهو والقارئ يلتهم

19 يونيو 2023
19 يونيو 2023

تعد الكتابة عن الكتابة نوعا من اكتشاف لذة النص، وكشف عن الأساليب والأدوات التي أنضجت النص، وقدمته إلى مائدة القارئ. هكذا كتب الروائي المصري عزت القمحاوي (1961)، في كتابه الجديد (الطاهي يقتل والكاتب ينتحر) الصادر هذا العام عن الدار المصرية اللبنانية، ينقلنا القمحاوي في الكتاب المذكور من مطبخ الطاهي إلى مختبر الكاتب، أو بالأحرى من الصحن إلى النص. على اعتبار أن «الإنسان هو الحيوان الطبّاخ، وما من مخلوق آخر سواه يعرض طعامه للتسخين ليغير مذاقه قبل أكله، وما من مخلوق سواه طوّر كل هذا القدر من الأنظمة المعقدة والعادات للحصول على المواد الغذائية وتحضيرها وتوزيعها واستهلاكها» كما ورد في كتاب الطبخ في الحضارات القديمة، للكاتبة كاثي ك.كوفمان ترجمة سعيد الغانمي.

وجد القمحاوي علاقة بين الطبخ والسرد، إذ حين تجتمع النساء لتحضير الطبخ، تُسرد القصص وتروى الأخبار، خاصة في المناسبات الاجتماعية، وقد ذكرني ذلك بما يفعله الرجال في ظفار أثناء انهماكهم بتقطيع اللحم في مناسبات العزاء على وجه التحديد، حيث يبدأ تنظيم أراجيز تنعي الميت وتذكر مناقبه، وتختتم بالمواعظ، وقد اختفت هذه الأراجيز بسبب التغييرات الاجتماعية في العادات والتقاليد.

ركز كاتب رواية بيت الديب على الرواية كصنف سردي يستعرض مهارات الكاتب في عجن الأحداث وتشكيل الشخصيات وإضافة البهارات وضبط الحرارة حتى ينضج النص ويُقدّم للقارئ، فالرواية في نظر القمحاوي بمثابة الخبز على المائدة، وكذلك «تستطيع الرواية الاستمرار؛ لأنها تتسع لوصف البشر والكائنات والجو والأزياء والموسيقى والتشكيل، والفلسفة، كما تفسح مكانا للشعر ذاته بداخلها. لنتذكر شكسبير. ما جعله يعبر الزمن، ويصل إلينا هو المسرحيات «الرواية التمثيلية» وليس السونيتات والقصائد».«»

لا يكتفي صاحب (الأيك في المباهج والأحزان) بسرد الوصفات السحرية ومكونات الأطعمة، بل يقودنا إلى مساحة الغواية في الكتابة، فيعرض لنا تشابه روائح بعض الروايات ونكهاتها التي تساعد ذائقتنا على هضم السرد الروائي، فمثلا يعرف القراء مقولة الروائي الكولومبي جابرييل ماركيز (1927-2014) في رواية الجميلات النائمات للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا (1899-1972)، التي كتب مقدمتها ماركيز وتمنى لو كان كاتبها. ولكن في كتاب (الطاهي يقتل والكاتب ينتحر) يتتبع الكاتب القصة المذكورة ليجد أن الروائي البيروفي ماريو برجاس يوسا (1936) قد ذكر أن فكرة رواية الجميلات النائمات مأخوذة من قصة أبيشج الشونمية في الكتاب المقدس لفتاة تحضن الملك داود لكي يشعر بالدفء. يورد القمحاوي أيضا التشابه بين حكاية ألف ليلة وليلة وبين الثيمة الأساسية لرواية (اسم الوردة) للروائي الإيطالي أمبرتو إيكو (1932-2016).

يحذر الروائي عزت القمحاوي من أضرار بعض الروايات التي «لا تُطعم سوى العين، ولا تقدم سوى الحدوتة البسيطة الحريفة، ولها أضرار طعام الشارع السريع المشبع بالدهون».

إذا كان متن كتاب (الطاهي يقتل والكاتب ينتحر) مثل الوجبة الرئيسة في المائدة، فإن الهامش مثل المقبلات والسلطات، متنوع بمادة معرفية ثرية متنوعة بين حوارات في أفلام عالمية مثل فيلم الدانماركي ( Babettes Feast) الحائز على أوسكار أفضل فيلم أجنبي 1987، وكتب لمؤلفين مجولين مثل كتاب (كثر الفوائد في تنويع الموائد)، إضافة إلى بحث للكاتب الفرنسي جورج بولتي(1867-1946) الذي «بحث في حبكات الروايات المهمة والملاحم وقصص الكتاب المقدس، وانتهى إلى أن كل القصص لا تخرج عن ست وثلاثين حبكة أو موقفا دراميا منها: التوسل، والتفاوض، واللغز، والجريمة بين الأقارب، وحبكة أوديب (سقوط ثم ارتفاع ثم سقوط) وحبكة سندريلا (صعود، سقوط، صعود)».

إن كتاب (الطاهي يقتل والكاتب ينتحر) بمثابة ورشة في الكتابة الإبداعية، زاخرة بالوصفات المطلوبة لإنجاح أي عمل سردي ممتع.