الفرحة عربية.. والتضامن إنساني

28 نوفمبر 2022
28 نوفمبر 2022

تؤدي الرياضة وظيفتها في الإمتاع والمؤانسة، وتقريب العلاقات بين الشعوب وترميم ما أفسدته السياسة، وربما لتلك الغاية النبيلة قامت فكرة البطولات العالمية لمختلف الرياضات قبل هيمنة فكرة التسويق التجاري على الرياضة وأدواتها ومشغليها. فقد كان تنظيم كأس العالم في اليابان وكوريا الجنوبية 2002 محاولة لطي ذكرى القنبلة النووية في مدينة هيروشيما 1945، وكذلك بطولة كأس العالم في جنوب أفريقيا 2010 ومحو آثار الفصل العنصري، فكرة القدم وسحرها وشغف الجماهير بها تُنسي الجراح وتبعث الفرحة والأمل من جديد.

إن المتابع لأجواء بطولة كأس العالم لكرة القدم المقامة في قطر، يشعر بالغبطة والسرور مهما كانت نتيجة مباراة فريقه المفضل، وأعني هنا المشجع العربي سواء كان حاضرا في المدرجات أو خلف الشاشات، فالبطولة العالمية تقام في بلد عربي نظّم وأدار حدثا عالميا سيبقى في ذاكرة البطولة وأذهان الأجيال، رغم الحملات المسعورة التي تعرّضت لها قطر قبل وأثناء بداية الحدث من قبل خصوم النجاح والعنصريين المنزعجين من نجاح البطولة، التي أحيت التضامن العربي الشعبي من عُمان إلى المغرب ومن سوريا إلى جزر القمر، فانتصرت الجماهير على الخلافات السياسية المفتعلة والمماحكات وجشع المصالح والمزايدات التي لا تُقدم نفعا ولا تضيف خيرا.

وإذا لم يتحقق في البطولة إلا الفرح العربي لكفانا، ولكن فلسطين الحاضرة في أجواء المونديال بأعلامها وحملات التضامن مع الشعب الفلسطيني تبهج النفس، ناهيك عن حالات الرفض والاستهجان التي رصدها ممثلو الإعلام الإسرائيلي أثناء تغطياتهم للبطولة، وشعورهم بالنبذ والمقاطعة من قبل الجماهير العربية وغير العربية. لربما يقال إنه ينبغي ألا توظف السياسة في المحافل الرياضية، نعم قد يصح ذلك لو لم يجسد المنتخب الألماني الحملات الإعلامية التي تعرّضت لها قطر بمنع شعارات المثلية الجنسية والترويج لها في المونديال. يؤسفني خضوع المنتخب الألماني للضغوطات الإعلامية ويتخلى عن مهمته الرياضية لصالح فئة تفرض ذائقتها على الآخرين. ونحن نعلم أن حرية التعبير في ألمانيا مُقيدة فلا يجوز التشكيك في محرقة الهولوكوست، ولا أداء التحية النازية، مع أن لفظة النازية تعني الوطنية (Nationalsozialismus) ولكنها ألصقت بأيديولوجيا حزب العمال القومي الاشتراكي، الذي ترأسه أدولف هتلر والاسم الأخير يُمنع تسمية المواليد باسمه في ألمانيا، حتى انتقاد إسرائيل يخضع لقانون معاداة السامية، لكن الأحرار الألمان لا تعجبهم ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين وفي مقدمتهم الروائي والكاتب جونتر جراس (1927-2015) الذي انتقد إسرائيل بشجاعة نادرة حمّلها تهديد السلام العالمي في قصيدته المعروفة (ما يتحتم قوله) لكن صاحب رواية (سنوات الكلاب) لم يعبأ بما قيل عنه، ولا طعنات رفاقه ولا حتى انتقاد كبريات الصحف الألمانية له، فقد قال كلمته ومضى، هو الذي رفض قبول وسام الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح إلا بالإفراج عن الكاتب والروائي اليمني وجدي الأهدل صاحب رواية قوارب جبلية، الذي فر إلى دمشق أثناء تصاعد حملات الإدانة ومحاكمته غيابيا بعد صدور الرواية، وكان الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني جار الله عمر (1942-2002) قد أبلغ جونتر جراس بحالة الأهدل، وتطوع صاحب جائزة نوبل للآداب 1999 للدفاع عن حرية الكاتب وسلامته الشخصية، فهكذا يتم الدفاع عن حرية الإنسان والتضامن مع حقه في الحياة.

كشفت الأزمة الأوكرانية وقبلها جائحة كورونا حقيقة النُظم الغربية التي تُقدم نفسها حامية وراعية لحقوق الإنسان، وبان ترهل القوانين التي عجزت عن استيعاب التحولات العالمية أو أرهقتها طفرة التكنولوجيا وفقد الإنسان سمو الأخلاق مقابل طغيان المادة واستحواذها على إيقاع الحياة الغربية الموغلة في ماديتها، لهذا لا بد من إعادة النظر في المعايير الأخلاقية أولا ثم تحديث القوانين بما يتوافق ويناسب الفطرة الإنسانية السليمة، فليس من المعقول ولا المقبول تعميم المثلية الجنسية وتفصيلها على المجتمعات والشعوب. وإلى أن تتم إعادة النظر في العديد من المسائل الإنسانية العالقة بين الحضارات سنستمتع مؤقتا بأجواء كأس العالم في الدوحة، ومشاركة المحتفلين بانتصارات فرقهم.