السفينة من اللؤلؤ إلى الصمود.. تحولات المعنى في الخليج
مع انطلاق سفينة الخليج في قافلة كسر الحصار عن غزة تستعيد المنطقة رمزًا قديمًا ما زال يبحر في الذاكرة. منذ أقدم الأزمنة ارتبطت صورة السفينة «البوم» بالخليج العربي، لا كوسيلة لعبور البحر فحسب، بل كعلامة ثقافية واجتماعية تعكس تجربة جماعية شاقة وملهمة. وقد كانت السفينة بيتًا على الماء، وبتعبير الدكتور محمد مبارك بلال في ورقته إشكالية التراث والهوية في المسرح الخليجي: التجربة الكويتية مع الإشارة إلى تجارب خليجية بارزة ــ 2010:
«تُمثّل السفينة هيكلًا تنظيميًا لدولة صغيرة في عالم البحر». إنها بهذا تُعَدّ عالمًا مكتملًا من العلاقات والمصائر يجمع بين النوخذة والغواص والسيب والنهّام، وتنتظم حياة هؤلاء في جملة من الفنون الخليجية التقليدية مثل: «اليامال»، و«الهولو»، و«الحدادي»، و«العرضات البحرية».
في زمن اللؤلؤ لم تكن الرحلة البحرية مغامرة فردية، بل قدرًا جماعيًا يذوب فيه الفرد في مصير الطاقم كله. يخرج البحارة لشهور طويلة يواجهون المجهول في الأعماق والعواصف، وترافقهم الأغاني البحرية التي تخفف وطأة الغياب والخوف. يصف المسرحي القطري عبدالرحمن المناعي في مقالته أوراق من البحر: باع السفينة حتى يشيع الدفء في القلوب ــ الدوحة، 1983 هذا الحال قائلًا:
«سبع سفن تجوب البحر شهورًا طويلة تحمل أكثر من أربعمائة بحّار، مئتان منهم يكتشفون الأعماق بمعدل اثنتي عشرة ساعة يوميًا لا تخرج أجسامهم من الماء إلا مرة واحدة لصلاة الظهر، وتناول قليل من التمر والقهوة، وآخرون تقطع الحبال أيديهم طوال النهار، وكل ذلك دون طائل...» هكذا تجسد البحر باعتباره مصدر الرزق والخطر في آن واحد، وتحوّلت السفينة إلى مرآة لعلاقة جدلية بين الشقاء والأمل.
كما يكتب الدكتور عبدالرحمن بن زيدان في ورقته التراث الخليجي والواقع العربي في الفرجات المسرحية ــ مهرجان الشارقة المسرحي، 2015 عن تجربة المناعي قائلًا: «ظل موضوع البحر والغوص على اللؤلؤ والتحولات التي عرفتها دول الخليج العربي حاضرًا في العديد من المسرحيات التي حفرت في التراث المحلي عن العلاقات التي كانت سائدة في المجتمع، وكيف أفرزت طبقات مستفيدة وأخرى محرومة. ومن كثرة رواج موضوع البحر والغوص صارت هناك ثوابت تحكم إنتاجية العديد من المسرحيات «...» وحين يعود المناعي في مسرحية المرزام، ويتخذ من موضوع البحر والماء والحب والاستغلال، والاستفادة من أزمة الكساد قضايا «...» فإن النص يحمل ملامح توفيقية للمتناقضات بين رموز تحتمل كل تأويل...». ولم يقف الأمر عند المناعي؛ فالمخرج والمؤلف العُماني عبدالكريم جواد يمنح السفينة في مسرحيته السفينة ما تزال واقفة -التي قدّمها مسرح الشباب بمسقط عام 1987- حمولة اجتماعية وسياسية وفكرية ذات دلالات رمزية متعددة.
«تدور الأحداث في عباب البحر، وتحكي علاقة الإنسان بالبحر، وأنه مهما صار فستظل السفينة واقفة لتكمل رحلتها. وهي مسرحية كُتبت بلغة سردية شعرية أسهمت المجاميع في تشكيل حواراتها، وفي التعليق على الأحداث...» (معجم المسرح العُماني: نصوص وعروض، ص 56).
ويمكن الإشارة إلى أسماء أخرى تناولوا في أعمالهم المسرحية البحر والسفن كثيمة للحضور والغياب، منهم ـــ نقلًا عن محمد مبارك بلال ـــ من الكويت الكاتب سالم الفقعان في النوخذا (1971) وأووه يا مال (1999)، ومن الإمارات الكاتب إسماعيل عبدالله في راعي البوم عبرني (1993) واللول، ومن البحرين الشاعر علي الشرقاوي في مسرحية المحمل.
لقد خرجت السفينة من ساحة العمل لتدخل فضاء الذاكرة والحنين، ولم تعد مقرونة بعرق الغواص، بل بصورة الأجداد في الحكايات. وهكذا أصبحت رمزًا للانتماء أكثر منها وسيلة معاش.
وقد صاغ الشاعر الكويتي الدكتور عبدالله العتيبي قصيدته في البحر والسفن وما تمثله للبحّارة العُمانيين، فحوّلها الملحن الكويتي أحمد باقر إلى لحنٍ يقطر شجنًا وحنينًا، وجاء صوت الفنان العُماني سالم بن علي سعيد ليمنحها حياةً على الموج مرددًا كلماتها التي تقول:
لِمَنْ السَّفائنُ والعبابُ وراءَها مثلُ الغُبارِ
ومَنِ الرجالُ المبحرونَ بكلِّ عزمٍ واقتدارِ
العابرونَ جوانبَ الدنيا بأشرعةِ الصواري
هذا ابنُ ماجدٍ والعُمانيونَ أسيادُ البحارِ
(2)
شكّل اكتشاف النفط نقلة عميقة في مجتمعات الخليج. ولعل أبرز المتغيرات ما انعكس على شكل الدول. يقول الروائي العُماني محمد اليحيائي في مقالته النفط الذي أعطى والنفط الذي أخذ ـــ مجلة الفيصل، 2017:
«أما على صعيد شكل الدولة الخليجية؛ فإن النفط أحدث تغيرات كبيرة أبرزها قيام ما يُمكن وصفه بالدولة الوطنية القائمة على بنى ومؤسسات تدير شؤونها. وفي مقدمة هذه الشؤون إدارة ريع النفط وتوزيعه، ثم إدارة برامج التنمية التحتية التي لم يكن لها أن توجد لولا الثروة النفطية، وإدارة المجتمعات التي بدأت في النمو والتوسع؛ بسبب البنى الأساسية«...» وأخيرًا إدارة العمالة الوافدة «...». على الوجه الآخر؛ فإن النفط لم يُحدث تغيرات مهمة على مستوى الثقافة السياسية أو فلسفة الحكم في الدولة الخليجية».
ومثلما غيّر النفط شكل الدولة وبُناها غيّر أيضًا معنى الرموز التي ارتبطت بمرحلة ما قبل النفط. فالسفينة -مثل البيوت القديمة والألفاظ والأغاني الشعبية والثياب والإبل- لم تعد أداة معاش ووعاء كدح، بل غدت أثرًا يُستحضر في المهرجانات والمتاحف، أو صورة أيقونية في الأغاني الوطنية والشعر الشعبي. وهكذا مرّت السفينة بتحولات لافتة: من وعاء للكدح والمعاناة المشتركة في زمن الغوص إلى وعاء للذاكرة والهوية في زمن الدولة الحديثة. واليوم -في لحظة سياسية وإنسانية مشحونة- تعود السفينة لتستعيد معناها العملي والأخلاقي معًا. فمبادرة التضامن مع غزة التي حملت اسم سفينة الخليج أعادت إلى البحر وظيفته كجسر بين الضفاف، وأعادت إلى السفينة حضورها كأداة فعل مباشر. لم تبحر هذه المرة بحثًا عن اللؤلؤ ولا احتفاءً بالتراث، بل نصرة للمحاصرين تحمل الدواء والغذاء متحدية الحصار. وفي هذه اللحظة المركبة تجتمع أبعاد متعددة: فهي أداة إنقاذ، ورمز مقاومة، وجسر معنوي يوحّد مشاعر الخليجيين مع إخوانهم الفلسطينيين. هنا يعود البحر فضاءً للمواجهة، والسفينة وعاءً للقيم الإنسانية الكبرى، ما يثبت أن الخليج ليس مجرد مصدر للثروة النفطية، بل فضاء حيّ للكرامة والتآزر.
إن الرموز مثل السفن لا تبقى جامدة، بل تواصل الإبحار كلما استدعاها نداء التاريخ. وحين تمخر سفينة الصمود عباب البحر اليوم فإنها لا تحمل مساعدات فقط، بل تحمل ذاكرة الخليج كلها: ذاكرة الكدح والأمل، والانتماء والكرامة، لتؤكد أن البحر لم يكن يومًا مجرد فضاء جغرافي، بل كان دائمًا مرآة للقيم الإنسانية التي تتجدد مع كل إبحار.
آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة فـي شؤون المسرح
