السِّتارة المسرحيّة

04 أكتوبر 2022
04 أكتوبر 2022

ماذا يُمكن أن يجري وراء السِّتارَة المسرحيّة؟

ذات يوم في شهر وفَصلٍ غير معلومين حوالي عام 1601م كتب الشاعر والمسرحي الإنجليزي وليم شكسبير رائعته الخالدة البهيّة مأساة الأمير هاملت مازجا فيها أولا بتعبير الأرديس نيكول "عدة عناصر مميزة في وحدة متكاملة ليصور روح المأساة تصويرا تاما [...] ويمكن تسمية هذه العناصر: العنصر الفلسفي للعصر الوسيط، والمسرح الديني الأخلاقي وعنصر تقليد [كريستوفر مارلو]، وعنصر تقليد [ توماس كيد]"، أما ثانيا فقد تتبع فيها شكسبير بلغة مترجم المأساة التي استندنا إليها في هذه المقالة للروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا قائلا إنها "أحد تقاليد العصر الإليزابيثي في تقليد مأساة الانتقام؛ التي تقوم في الغالب على محاولة وصول البطل إلى عدوه للقضاء عليه." ولا شكّ أن هاملت يبلغ فيها شكسبير براعة في الشعر وإبحارا عميقا في العاطفة ووحدة في الانسجام من خلال تصويره لشخصيات المسرحية وتقلباتها وأهوائها ومطامعها، وتكتسب الستارة في هذه المأساة وظيفة مهمة إذّ يجري خلفها ما يَضع المتفرج أو الباحث المعاصر أمام نظرتين مختلفتين لوظيفتها؛ فمن الطريف أن أولاهما حسبما أرى لعبت الستارة وظيفة خيالية اتصفت مرة بالتراجيديا، وثانيتهما إدراج وظيفتها في الحسّ بالدعابة.

وقبل الوقوف عند وظيفة الستارة في هاملت وتبين الوظيفتين السابقتين ينبغي العطف حسب التقليد إلى تاريخ السّتارة في المسرح، فهي لأهميتها التاريخية كانت تعدُّ إشارة على افتتاح العرض المسرحي وانتهائه، وأن اختفاء وظيفتها بالمعنى التِقني مؤشر إلى انتهاء تاريخها الفعلي، لا سيما، في عروض المسرح الحديث الذي يتوخى بواسطة التوغل في التجريب والسينوغرافيا استثمار كلّ عنصر من شأنه أن يؤثث لتداخل الفنون في العرض المسرحي بلغة العصر، أمّا الوجود الفعلي اليوم للسّتارة فبات يَقتصر اليوم على عروض الباليه في دُور الأوبرا.

حسنا، يمكن أن يجري وراء الستارة الكثير من الصنائع والأفعال الدرامية والتركيبية وما لا يخطر على قلب بشر. تاريخيا في زمن المسرح الإغريقي (ق.م) يقول معجم المسرح إن الستارة كانت قطعة من القماش يُغطى بها جزءا محددا من مكان العرض في مقدمة الخشبة. وباختلاف العصور تغيرت الأعراف والتقاليد المتعلقة باستخدام الستارة. ففي إنجلترا مثلا وظفت الستارة في الخشبة الإليزابيثية "لتخفي القسم الخَلفي من الخشبة والجزء العلوي الذي يقع في الطابق الثاني." واستمرت ستارة المسرح تواكب التطور مستجيبة لطبيعة مكان العرض، فأخذت تُكتسب بعض التنويعات في الوظائف، ففي القرن السابع عشر مثلا أدّت السّتارة وظيفة "الفصل بين حيزين مكانيين، وبين زمنين؛ حيز وزمان المتفرج أي الواقع، وحيز وزمان العرض أي عالم الإيهام"، وإضافة إلى تاريخها نوقش ألوانها، وآلية فتحها، وتوقيت رفعها وإسدالها، وانطلاقا من فرضيات التطور أخذت السّتارة تختفي، ومع غيابها "في كثير من العروض صار يُعوّض عن دورها في التقطيع بالظٌّلمة بين المشاهد واللوحات أو بعنصر آخر."

الناظر اليوم إلى التجريب ودَور المخرج المسرحي بالبحث عن أشكال إخراجية جديدة يُلاحظ معه اقتصار وظيفة الإضاءة في كثير من العروض المعاصرة لتقوم بمهمة الستارة، وبالبحث المستمر في توظيف علامات العرض المسرحي الممكنة للخشبة، صار المخرجون يوظفون قطع القماش، أو يوجهون حُزما ضوئية إلى مناطق مختلفة تُسهم في خلق الإيهام بوجود عناصر بنيوية مكانية دالة، أما على عنوان العرض أو مكان الفعل أو رمزية ما يفترض وجودها على الخشبة.

إنّ وظيفة ستارة المسرحية هي الحجب؛ حجب ما لا يجبُ أن تراه العين من أفعال حميدة كالمفاجآت الجميلة السّارة، أو أفعال قبيحة كالقتل أو السرقة أو الدسيسة. ومن وظائف الحجب، هذا التنوع الحاصل بين الدلالات: النور والضوء والظلمة والسواد، السِتر والإخفاء أو البوح والإعلان. في مأساة هاملت تجري كما أشرنا أعلاه النقائض وعجائب الأمور، والشخصية المركزية التي ستطبعنا بهذا الطابع هي بولونيوس ووظيفته رئيس الوزراء. تتكون المأساة من خمس فصول وعشرين مشهدا. يبدأ الظهور الأول لرئيس الوزراء منذ الفصل الأول في المشهد الثاني. في حوار شائق يكشف لنا شخصية بولونيوس كأب تارة ووزير لا ينقصه الخبرة والحنك والذكاء التي تؤهله لشغل منصبه تارة أخرى. يُقرّب لنا شكسبير بولونيوس فنراه بمرآة الوزير الأب الناصح الأمين لابنه ليرتس الذي كان يستعد في الذهاب لمهمة ملكية قائلا له: "أمسك اللسان عن أفكارك، أحسن البلاء لكي يحذرك خصمك، خذ الرأي من كل فرد ولكن احتفظ بحكمك، لا تُدن ولا تستدن...إلخ" إن وعي رئيس وزراء الملك كلوديوس بوظيفته يُمكن أن يعزز من أهمية الحاشية ومستواها الثقافي وخبرتها في إدارة شؤون المُلك، فإذا كان كلوديوس قد وصل إلى حكم الدنمارك عبر جريمة قتل، فشكسبير حرص أن يختار حاشية للملك تتمتع بمؤهلات المُلك، فبعد أن ينصرف ليرتس مودعا أباه وأخته أوفيليا، يحاور بولونيوس ابنته عن موقع يمزج فيه شكسبير بين عاطفة الأب الذي يرى ابنته صغيرة غرة يسهل التلاعب بعواطفها، وعاطفة الوزير الذي في أعماقه سيفرحه أن تتزوج ابنته من الأمير، لكن تتغلّب عاطفة أخرى هي الأب الذي يرى في الرّجل ذئبا همه كغيره "تحقيق الدّنس من القضايا فيتنفسون كالداعر التقيّ الورَع ليتقنوا الخديعة"، فنراه يحذّر ابنته ألا تستسلم لودّ هاملت ولا تصدق وعوده التي يقطعها لها فهي شِراك لصيد العصافير، ثم يأمرها قائلا: "لا أريدك من الآن فصاعدا -وأقولها صراحةً- أن تنفقي لحظة واحدة من أوقات فراغك في الكلام أو الحديث مع الأمير هاملت." وفي موضع آخر في المشهد الأول من الفصل الثاني، نشاهد رئيس الوزراء متتبعا خطى ابنه ليرتس في مهمته، محفزا خادمه رينالدو أن يوافيه بأخبار عن ابنه ورأي الناس فيه بل ودافعا إياه إلى تلفيق بعض العيوب كزلات اللهو والمجون والشراب والمبارزة والشتم والمشاجرة هادفا الأبُ من ذلك أنه "بِطُعم من الكذب تصيد سمكة من الحقيقة" بل إن بولونيوس كرئيس للوزراء لا يُخفي بعض الأساليب التي يفعلها السياسيون فيراها المتفرجون أساليب قذرة ومبتذلة لكنها لديهم مثبطات المنصب، فيقول لخادمه: "وهكذا نحن المتمتعين بالحكمة والنفوذ نكتشف بالطرق الملتوية والحياد عن الهدف والوجهات الصحيحة."

لقد تعمد شكسبير أن يضع هذه الصفات في بولونيوس، كي يبين لنا مكونات الشخصية التي لديها سلطة، ولعلنا نسأل ونحن نقرأ هذه الشخصية، أين سيكون مأزقها؟ شخصية مبنية بصفات المكر والدهاء متى ستقع؟ إن شكسبير لا يمهلنا طويلا، فقد وضع على لسان بولونيوس الأداة التي ستودي بهلاكه الأقرب إلى التراجيديا والملهاة معًا. ففي حديث يجري ما بين الملك ورئيس وزرائه والملكة، يخبرهم بولونيوس عن علاقة ابنته مع هاملت التي شغفها حبًا موجزا القول إن ولدهم النبيل مجنون وأن سبب ذلك صدود أوفيليا له، وحتى يتأكدان من ذلك فإنه سيطلق لابنته الفرصة كي تلتقيه وسوف يختبئ الجميع وراء الستارة ويترقبون ما يجري أمامهم! يقول: "ولنختبئ عندئذ وراء الستارة ونرقب المقابلة". في الواقع إن بولونيوس يُمهد بهذا القول لمقتله! لقد قدم لنا شكسبير بواسطة تقنية الاستباق الزمنيّ والمتمثل "في سرد حدث لاحق أو ذكره مقدّما" بحسب معجم السرديات، ما من شأنه أن يُرينا كيف سيغدو تبدّل المواقع بفعل ذلك التحوّل، إذ يحلف بولونيوس إن لم يكن هاملت يُحب ابنته، ولم يكن قد سُلب عقله لحبها، وأن جنونه سببه هو الحبّ المُهمل لا كان وزيرا لدولة بل مدير مزرعة وسائقي عربات! سأبتسم هنا، لأن بولونيوس الرجل الحكيم الماكر يمتلك إلى جانب فكاهته حسًّا باللغة والنقد، فنراه في موضع آخر من المسرحية يبدي ملاحظات بشأن حوار أحد الممثلين الذين سيقدمون تمثيليتهم أمام الملك والملكة، فيصف عبارة الممثل بأنها طويلة، ويَطنب على جملة فيها بأنها بليغة.

يتضح لنا شيئا فشيئا الحس بالملهاة أو بالدعابة والظُّرف في شخصية بولونيوس، لقد كان يمثُل لدى فرقة مسرحية بالجامعة وكان يُعدُّ من خِيرة الممثلين، فحينما سأله هاملت ماذا مثَّل في حياته أجابه: "يوليوس قيصر، وقُتلتُ في الكابيتول. قتلني بروتس."

في المشهدين الثالث والرابع من الفصل الثالث يضع شكسبير حدًا لحياة رئيس وزراء الملك، ففي إحدى حجرات القلعة يقبع بولونيوس وراء الستارة ليسمع ما يجري بين هاملت وأمه حول غضب الملك من التمثيلية التي قدمتها الفرقة فيشتدُّ بينهما الكلام فتقول لابنها هل ستقتلني وتصرخ طالبة النجدة، ومن وراء الستارة يصرخ بولونيوس مناديا: "يا ناس النجدة"، فإذا هاملت يُشهر سَيفه فيضربُ ضَربة نافذة خلال الستارة، ويقع بولونيوس أرضا ويموت.

تعددت مواضع الاستباق في مأساة هاملت، وتناولتها هنا في موضع لشخصية واحدة هي بولونيوس، ولأنّ وظيفة الستارة هي الحجب، فإن فكرة الاختباء خلفها لا تكتسب دلالتها إلا من خلال الفعل الذي يعلو بالصراع الدرامي، وغير ذلك فلا قيمة درامية لوجودها. اليوم، في بعض العروض المعاصرة التي تستعيد هاملت يجري الاستفادة من ستارة بولونيوس لتحقيق أغراض مختلفة، ليس من بينها ما كانت عليه.