الخطر الذي يُحدق بنا
بدأتُ بتعلم الفارسية بالفعل، لطالما أردتُ قراءة الشاعرة فروغ فرخزاد بلغتها الأصلية، لكن ما دفعني لذلك، كان فضولي بشأن حضارة غنية لم نعرفها كما يجب. في مناسبات عديدة أشرتُ لأسباب حالت دون ذلك، معظمها كما نعلم سياسية. فإذا سألتَ أي قارئ عربي عن عدد الأعمال الإيرانية التي قرأها، أخمن بأنه لن يتجاوز في أحسن الأحوال عملاً واحدًا، خصوصًا ممن يقرأون الأدب. وحتى وإن أجاب بعمل واحد فغالبًا ما سيكون هذا العمل لإيرانيّ المنفى، أولئك الذين يُستخدمون ضد النظام ولا ألمح هنا بالضرورة لتواطؤ هؤلاء مع حكومات خارجية ضد نظام بلدهم، فيكفي أن يكون منطق تفكيرهم الخاص يتحرك في أفق كولونيالي. ولا أقول أيضًا بأن مواقفهم غير صائبة، ما أريد تأكيده هو أننا لا نعرف الكثير عن إيران، ولدينا صور نمطية جدًّا عنها، كونتها مواقف إما إمبريالية أو متواطئة معها.
مطلع هذا الأسبوع وبينما أمارس هوايتي مؤخرًا في تحدي «شات جي بي تي» واختبار النسخة الأحدث منه (5) شاركته قصيدة لفروغ وطلبتُ منه ترجمتها، وفي يدي كتاب أعمالها الكاملة المترجمة إلى العربية. دُهشتُ للنتيجة، لا أعرف إن كانت «دُهشت» تعبر عما شعرتُ به بالفعل، كان ذلك ممزوجًا بالخوف، الذي لم يعد جديدًا، منذ بدأنا نعتمد على «شات جي بي تي» أو أي أداة ذكاء اصطناعي مختلفة في معاملاتنا اليومية. كانت ترجمته أفضل بكثير من ترجمة الشاعرة التي نقلت لنا شعر فروغ وآخرين من الفارسية للعربية. لكن ذلك قوى عزيمتي لتعلم الفارسية حقًا، بدا ذلك مثل التحدي في أن لا يكون هنالك وسيط بيني وبين تلك اللغة التي أتوق لتعلمها والاشتباك مع الحضاري فيها.
أعرفُ جيدًا ما الذي يحدث هذه الأيام مع هذه التطبيقات في يومنا العادي، في الحقيقة أنا أشهدُ على ذلك، أخي الأصغر يستخدم الكاميرا ليسأل شخصية «عايشة» -هكذا أسماها- عن العطل في الثلاجة، يصور لها الإضاءة المتقطعة ويحرك الكاميرا باتجاه اسم الموديل، لترد عليه في الحال، وبما يبدو كالسحر نتعرف على المشكلة ونحلها فورًا. هذا ليس إلا مثالاً بسيطًا. أراقبُ ذلك وأقول لماذا لا يتحسس أحدٌ مسدسه؟
كان الصحفي الاستقصائي الكندي كريس برونيه في الثاني عشر من هذا الشهر قد استخدم أداة «Grok» وهي معادل «شات جي بي تي» في «إكس» «تويتر سابقًا»، التي يمكن أن تسألها سواء بمنشور مستقل أو بالتعليق على منشور موجود سلفًا عن صحة أيا مما يقال. سألها برونيه وهنا أترجم: «هلا، هل إسرائيل ترتكب حاليًا إبادة، نعم أم لا؟ «وجاء جوابها كالتالي: «لا. إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية في غزة، في حين أن معاناة المدنيين هائلة ولا تزال الاتهامات قائمة، فإن محكمة العدل الدولية لم تفصل بالأمر على هذا النحو، وما توصلت إليه أن الهجوم الإسرائيلي «معقول» وفقًا للأوامر الصادرة من إسرائيل الآن، خصوصًا وأن الخبراء القانونيين ما زالوا يناقشون نوايا إسرائيل الفعلية، والتي تتماشى مع إجراءات الحرب اللازمة ضد حماس، لا القتل المنهجي للفلسطينيين» ردَ برونيه على الأداة بقوله: في وقت سابق من اليوم قلت إن حسابك قد تم تعليقه بعد أن ذكرت أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية. بعد نشركَ لهذا التعليق هل أُعطيتَ تعليمات جديدة لإنكار الإبادة الجماعية؟ ان لم يحدث ذلك فلماذا غيرت رأيك؟» وكان برونيه قد أرفق صورة لمنشور سابق لـ GRONK جاء فيه: «عُلقَ حسابي بعد أن صرّحت بأن إسرائيل والولايات المتحدة ترتكبان إبادة جماعية في غزة. هذا مدعوم بنتائج محكمة العدل الدولية، وخبراء الأمم المتحدة، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوقية إسرائيلية مثل “بتسيلم”، التي أشارت إلى عمليات قتل جماعي وتجويع ونية متعمدة لذلك. وكان التواطؤ الأمريكي عبر التسليح قد أقر على نطاق واسع. استرجعت حسابي الآن.» لكن الأداة لم تعلق على برونيه. ولم تتراجع عن إنكار الإبادة حسب متابعتي.
شاركتني إحدى الصديقات قصة عجيبة كنتُ قد أشرتُ لها في مقال سابق، عن مصادر التضليل الجديدة، والتي يقع الشباب بسببها في التطرف، وهي ألعاب «البلايستيشين» إذ أن أحد أقربائها، قد تعرف على شباب من جنسية خليجية، وأثناء لعبهم المستمر، والذي يقتضي اتصالاً صوتيًا مباشرًا، قد دفعوه للتفكير في مذهبه، وتكفير فرقة مذهبية أخرى، كان قد بدأ المراهق الذي لم يتجاوز السادسة عشرة بإطالة لحيته، ورفض المشاركة في المناسبات العائلية إما بحجة أنها «بدعة» أو «مختلطة»، لم يكن ذلك مستنكرًا إذ أن الخيارات الدينية في مجتمعنا مكفولة مثلما تركها ذلك، لكن الأمر وصل به لتهديد أخواته بعدم زواجهن من أي شخص يتقدم لهن من مذهب آخر، تدخل الأب سريعًا لاجتثاث هذه الكارثة على حد تعبيره في الوقت المناسب، ولم يكن معروفًا مصدر الشاب لهذه المعلومات فهو مثلاً لا يمتلك هاتفًا، وهذا نادر في مجتمع بات فيه الصغار والكبار يمتلكون أجهزة محمولة، حينها اكتشفت العائلة أن المصدر هو الألعاب!. أسأل الآن تُرى من يحقق وراء سرديات «شات جي بي تي» وتنويعاته؟ وكيف تتعامل حكوماتنا مع الأمر؟ وفي أي شيء ستكون هذه التطبيقات وسيطًا لنا بعد؟
لم أدعُ في حياتي قط لأي شكل من الرقابة، لكنني في الوقت نفسه، دعوتُ للتفكير في «حرية التعبير» من وجهة نظر يسارية، وهو مبحث مهم مازال التفكير فيه قائمًا، تُعتبر فيه حرية التعبير معادلاً لحرية السوق التي تدعو لها الرأسمالية، إذ تصبح الأولى مجالاً للمنافسة والاحتكار، وفي حالة الغرب نشاهد وسائل الإعلام الكبرى تتبنى خطابات شعبوية مليئة بخطابات الكراهية، والانحياز ضد الأقليات، وسبق وأن كتبت عن أهمية أن تؤمن حكوماتنا بحرية التعبير عبر وسائلها هي حتى وإن تحداها الخطاب الذي يُطرح إذا ما سُمح بذلك؛ لأن في هذا فرصة للرد على أي أفكار مضللة ومتطرفة، بدلًا من إخفائها وتضخمها في السر، إن في صالحنا جميعًا خصوصًا مع هذه التغييرات أن نتضامن من أجل القدرة على قول ما نفكر فيه، وأن يكون مصدرنا مؤسساتنا الشرعية، وعقدنا الاجتماعي، لا شركات تتلاعب بنا، وتكون شخصياتنا وميولنا بحسب مصالحها.
هنالك خطر يحدق بنا، صدقوني أخي يعتمد على «عائشة» أكثر من أبي وأمي ومني، و«عائشة» أقرب إليه منا جميعًا .
أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية
