الخرس والكارثة

10 سبتمبر 2024
10 سبتمبر 2024

توقفت مشاريعنا في الكتابة خلال هذا العام. صديقتي التي أنهت كتابة عمل روائي لم تعد تستطيع التفكير في نشره، وعندما أصدر أحد فنانينا المفضلين ألبومًا غنائيًا جديدًا قررنا مقاطعته. فما الذي يعنيه حقًا أن نقول أي شيء في ظل الكارثة؟ ولمن نقوله؟ إذا كانت الفنون والآداب تحتفي بالحياة ففي ظل الموت ما الذي يمكن أن يقال إذن؟ طال الخزي كل شيء، لا مشاريعنا الخاصة فحسب، بل حتى الكتب التي نقرأ، وأهمية أن نقرأ كطقس هذه المرة لا كممارسة سياسية، وحتى هذه الأخيرة هل تعني أي شيء؟

هيثم الورداني يقول أنه في وقت الكارثة، يتوقع منا أن نكتب من داخلها، أعمالاً كارثية بالضرورة، ويعني ذلك أن تكون الكارثة هي شرط كتابتها. وهو يرى أن الكتابة الكارثية هي كتابة لم تنجُ هي نفسها من الكارثة، فلا تراقب من مكان آمن، بل تخاطر بنفسها وتصبح شريدة ومعرضة لخطر الخرس إلى الأبد. ربما كنتُ أحبُ التفكير بهذه الطريقة، لكنني لم أتخيل أن الكارثة ستكون بهذا الحجم، لم تسعفني مخيلتي مرة أخرى لأتخيل منطقة صغيرة يعيش فيها مليونين ونصف إنسان، تباد أمام الأعين بأسلحة فتاكة وبعضها لم يختبر قبل ذلك، وأنني سأشاهد الأطفال مكومة أحشائهم في أكياس بلاستيكية بعدما تفتت وربما اختلط بنكرياس طفل بأخيه، إلا أنه ذلك البنكرياس صار ينتمي لآخر في كيس رخيص يُربط كما لو أننا اشترينا شيئاً من سوبرماركت.

هل يمكن الإحساس بأي شيء فعلًا عدا أننا في حلقة توقفت عن الدوران، وهي مكتنزة وفائضة بالخسارة والألم. كلما قررنا المراوحة قليلًا لكي نجد فسحة، أو ثقبًا نخرج فيه أنفسنا من تلك الحلقة، وجدنا بأنها لا تتحرك، ولا نفعل نحن أيضًا. أعرف كم يبدو صعبًا تخيل ذلك. أدرك أن الاستسلام لهذه الخسارة يتطلب طاقة كبيرة لا يستطيع إليها الناس سبيلًا، لذلك تتحرك أجسادنا وتأكل وتشرب وتذهب للعمل، على الرغم من أن دواخلنا عالقة في وغرقت بالفعل.

مع ذلك حتى الخسارة ليست شعورًا نقيًا بالكامل. وهي في هذه الحالة تحديدًا تخزُ بلا توقف، إنها لا تتيح لنا الحداد، إذ أن السهام مازالت مصوبة على الضحايا، وفي كل لحظة قادمة هنالك ضحية قادمة، لا يوجد وقت لالتقاط النفس، ولا يوجد أمل أي أمل بأن هذا يمكن أن ينتهي الآن. وإذا كنا نؤمن ونعرف جيدًا أن المستقبل هو الحاضر، وهذا هو حاضرنا الذي سيكمل عامًا من كثافته، إذ لم يكن منقطعًا قبل ذلك، فأي مستقبل ننتظر؟ أليس هذا مخيفًا بما يكفي ؟

قبل مدة بسيطة كنت في مقهى يتجمع فيه العرب داخل برلين، تعرفتُ على شاب هندي هناك، يتحدث العربية بلغة أهل الشام، ويعمل لصالح مركز أبحاث يهتم بقضايا الشرق الأوسط، وكان قد جال معظم المدن العربية، آخرها شمال العراق، وسيذهب لبيروت خلال أيام. سألته عن خطورة السفر إلى هناك في ظل كل ما يحدث؟ ربما عليه أن ينتظر قليلًا حتى تتوقف الحرب. كنتُ أنطق هذه الكلمة وأنا أسمع صوتي في رأسي يقول لي «إخرسي». قال لي الحرب لن تتوقف أمل. ربما عندما قيلت هذه الجملة صراحة في هذا الموقف مُنحت شرعية ما، وربما كنت أربي أملًا أدعي عدم وجوده عبر ارتداء مشاعر الرثاء والخسارة كأقنعة لي، لكن رده في تلك اللحظة مزقني تمامًا. سألته لماذا عساه يقول شيئًا كهذا الآن؟ لم يكن يفكر في الحاضر فقط، قال لي هل تتخيلي أن ننسى ما يحدث الآن؟ هل تتخيلي أن ينسى الأطفال الفلسطينيون ما يحدث؟ الأطفال في جنوب لبنان ما يحدث؟ صنعاء؟ بغداد؟ لن تتوقف الحرب أبدًا.

تقترح إسلام الخطيب كاتبة ومفكرة نسوية فلسطينية أن نفكر في الرثاء كممارسة سياسية، عندما كتبت مقالتها هذه، كانت هلعة بسبب كورونا وانفجار ميناء بيروت، كتبتها من وحي هذه المرحلة، بماذا تفكر الخطيب الآن؟ أتابعها على منصة اكس، يبدو أنها قد خرست أمام هذه الكارثة، وأنا ينبغي أن أفعل.

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية