الحواس الغاشمة وصراع العروش

13 يونيو 2023
13 يونيو 2023

انضممتُ مؤخرا للطائفة العريضة لمشاهدي أحد أكثر برامج التلفزيون شهرة في الوقت المعاصر مسلسل game of thrones والذي عرضت حلقاته الأخيرة من موسمه الثامن عام 2019 بعد أن دُشن هذا العمل عام 2011، بالنسبة لي كل ما يتعلق بهذا العمل يحمل سمة «نستالوجية» ففي الوقت الذي أصبح فيه الملايين ينتظرون المواسم الجديدة منه ويتأثرون به، بل ويبتاعون منتجات تحمل طابعا رمزيا لأحداثه وشخوصه، كنت أتأمل هذا الحماس، بفرح وارتياب، الأول لأنني أحب اهتمام الناس بعمل ما، وإجماعهم عليه، إنها واحدة من تلك اللحظات القليلة التي تلمع فيها إمكانية أن نتجاوز كل اختلافاتنا وأن نتفق على شيء ما، أما الارتياب فمصدره أنني لم أشاهده، وشعرت بأنني خارج تلك اللحظة الزمنية، خارج التاريخ بطريقة ما، كما أحس دوما حيال كل شيء في حياتي. أتذكر حماس صديقاتي عام 2019 والاتفاق على تجمعات في بيت إحداهن، لمشاهدة الحلقة فور تحميلها، يتعرفون على أشخاص جدد هنا في مسقط، عبر شبكة علاقات نجح المسلسل في خلقها، ليس هنا فحسب بل في كل مكان تقريبا.

هأنذا قررت مشاهدة المسلسل أخيرا بعد سنة كاملة من زيارتي لأصدقائي في ألمانيا، عندما وجدت أن «ميلو» نفذ نموذجا لأحد أردية الفرسان في المسلسل، بدأ بذلك من الصفر تماما، وهو اليوم يضع فارسا مسلحا صنعه بنفسه في صالة بيته، وكان قد ابتاع النسخة الأكثر دقة للمسلسل من مصدرها، ليشاهد العمل وتفاصيله مرات ومرات. كان يكفيني من ذلك كله أن أنضم أخيرا لهم وإن جئت متأخرة، لذا شاهدت ٧٣ حلقة كاملة من المسلسل في حوالي ثلاثة أسابيع. وعندما عرف أصدقائي أنني بدأت بمشاهدته أخيرا، كانوا يطرحون عليّ أسئلة ملحة: ما رأيك؟ هل انصدمت؟ أو يحذرونني برطانة حول أهمية ألا أتعلق بإحدى الشخصيات وألا أثق بشيء.

بصراحة كانت كل مشاعري وأفكاري المسبقة عن العمل هي التي غمرتني طوال فترة مشاهدتي له أكثر منه هو نفسه. مع فضول حول الحلقات التي أخرجتها نساء مثلا بالمقارنة مع الحلقات التي أخرجها مخرجون ذكور. وعندما وصلت لشارة النهاية. أخذت نفسا عميقا، وقررت القراءة عن هذا العمل، أن أشتبك معه أكثر، أن أعرف سر تأثيره فعلا، وأن أفهم كيف استقبله الناس في أماكن شتى من العالم.

وهنا بدأت أحبط شيئا فشيئا، بالتأكيد أنني لم أقرأ كل ما كتب عنه، ولا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يخوض مهمة كهذه، لكنني بدأت بالمجلات التي أشترك فيها أصلا، الغارديان، نيويوركر، نيويورك تايمز وهكذا، كانت معظم المقالات التي قرأتها تحاول تقديم مقاربة تأويلية حول المعاني الكامنة وراء كل الأحداث المحتدمة داخل العمل، بدا أن العمل لا يتجاوز محاولته لتمثيل شيء ما في الخارج وهذا ما يقتصر عليه وجوده. على الفور تذكرت المقالة الأثيرة لسوزان سونتاغ: ضد التأويل. وقررت إعادة قراءتها بعد سنوات مرت على القراءة الأولى، والتي أظن أنني لم أفهم فيها المقالة كما حدث وأن فعلت هذه المرة.

بحسب سونتاغ فإن الوعي الغربي لم يتجاوز التفكير حول الفن إلا بتلك الحدود التي رسمتها النظرية الإغريقية للفن على اعتبار أنه محاكاة، إن الفن هو مضمونه فقط، والشكل ليس سوى شيء عرضي. الأمر الذي جعل من فكرة المضمون عائقا، وخشونة ذوق. إن ما يسعى المهتمون بالفنون لفعله بجدية هو «تأويل» العمل الفني أي ذلك الفعل الذهني الواعي الذي يجسد نظاما معينا.

وتذهب سونتاغ للحديث عن تاريخ نزعة التأويل هذه والوقت الذي احتاج فيه العالم لاستخدامه أكثر من أي وقت مضى، وهو نهاية الحقبة الكلاسيكية عندما جاء التنوير العلمي ليدحض سلطة الأساطير. تكتب سونتاغ «أستدعي التأويل لمواءمة النصوص القديمة مع المطالب الحديثة» وتكتب في مكان آخر من المقالة نفسها «يفترض التأويل تفاوتا بين المعنى الواضح للنص ومتطلبات القراء (اللاحقين). إنه يسعى إلى إلغاء هذا التفاوت فقد أصبح النص، لسبب ما، غير مقبول، ولكن لا يمكن إهماله، والتأويل خطة جذرية للاحتفاظ بنص قديم من خلال ترقيعه، إذ يعتقد أنه مهم لدرجة لا يجوز معها اطّراحه جانبا». إن هذه الحماسة للمضمون والتأويل بحسب سونتاغ تنطوي على عدائية واضحة وصريحة للمظاهر. والتأويل ليس إلا فعلا رجعيا، يسمم رهافة أحاسيسنا خصوصا عندما يتعلق الأمر بالفن. إنه بالنسبة لها شكل من أشكال انتقام الفكر من الفن. بل هو «انتقام الفكر من العالم، فالتأويل يعني الإفقار، استنفاد العالم – من أجل رسم عالم يتكون من ظلال (المعاني)، إنه يروم تحويل العالم إلى هذا العالم ((هذا العالم))! كما لو أنه يوجد عالم آخر» تذكر سونتاغ أمثلة من الأدب عن تأويلات عندما قرأتها كدت أبكي لأنني نفرت دوما من هذه التفسيرات لأعمال كافكا مثلا والذي قوبل إما بتحليلات رمزية اجتماعية أو تحليلات رمزية نفسية، أو حتى قراءة كافكا على أنه مجاز رمزي ديني. إن هذه الرغبة المستميتة في تأويل العمل الفني كما أسلفت، إنما هي وفقا لسونتاغ استياء بوعي أو غير وعي من الفن والرغبة باستبداله بشيء آخر. إنه ينتهك الفن ولا يجعله أكثر من سلعة للاستعمال «تصلح للترتيب ضمن ترسيمة ذهنية من الأصناف».

لذا فإن الفن الحديث يحاول الهرب اليوم من المضمون، إنه محاولة لإلغائه، يمكن ملاحظة ذلك في الشعر الحديث. الأمر الذي جعل هذا الأخير يبتعد وأخيرا عن تلك اللجاجة حيال ما جعل الشعر فريسة للمفسرين. تذكرت على الفور تلك العبارات التقريعية أحيانا والتهكمية أحيانا أخرى عن عدم فهم الشعر الحديث. (ماذا تقولون؟ كيف أستطيع التواصل معك كشاعر وأنا لا أفهمك؟) إننا نبحث إذن عن ترميزات ذهنية يمكن أن تصنع العالم هذا العالم نفسه الذي نعيش فيه، تاركين فرصة اللغة في خلق عالم آخر فعلا، من خلال حساسيتنا واختبارنا لما بين أيدينا بلحمنا كله! بوجودنا كله! إن كل ما تعنيه كل تلك النداءات حول عدم فهم هذا الشعر ليست إلا الخوف من «النوعية المحررة المناهضة للرمزية».

لكن سونتاغ لا تتركنا أسيري تفكير عدمي إزاء رغبتنا في التعبير عن الفن ونقده، فهي تسأل السؤال في نهاية المقالة بوضوح «ما هو شكل النقد الذي يخدم العمل الفني ولا يحتل مكانه؟» من بين إجابات رائعة تقدمها تعجبني بوجه خاص تلك الإلماحة عن قيمة الشفافية في الفن، إذ تعتبر أنها محررة، وما تقصده سونتاغ بالشفافية هنا «اختبار ضياء الشيء بحد ذاته» إنها تدعونا لاستعادة حواسنا، أن نرى أكثر وأن نحس أكثر وتختم مقالتها بمقولة ساحرة «بدلا من هرمنيوطيقا الفن، نحن بحاجة إلى أيروتيكا الفن».

تقتضي قواعد كتابة مقال جيد لا أتجاهل الإطناب الذي حدث في مقدمة هذه المقالة عن «صراع العروش» ومشاهدتي له، ومع كراهيتي للقواعد انظروا أنا أمتثل لها! هالتني كم الدراسات الأكاديمية والمقالات النقدية، عن نسوية العمل مثلاً، وعن محاولة استيعابه داخل نظام تفسيري يشي باحتقان العالم اليوم، وبالامتثال الأعمى للسلطة، وبتحول المحرر والتنويري إلى طاغية ومستعمر. في حين أنني كنت أتوق مثلا لقراءة انطباعات تعادل استجابات حسية لمشاهد بعينها، أو ببساطة لقراءة شيء عن متعة مشاهدة العمل وطبيعتها داخل تجربة كتاب شاهدوه وأعجبوا أو لم يعجبوا به. عموما لقد كانت رحلة مشوقة ومثيرة بالنسبة لي.