الحزن قلعتي

20 يونيو 2023
20 يونيو 2023

لا أتذكر في أي كتاب قرأت أننا نتعلم كبح مشاعرنا والتعبير عنها بالقدر نفسه الذي نتعلم فيه تقاليد التعبير عن عواطفنا. وربما يمكن ملاحظة هذه القاعدة في وقت ما، لكن يبدو أنها لم تعد سارية على أحد. فأمام تدفق كل ما يمكنه أن يلبي رغباتنا في العالم وتوفره، وأمام كل تلك الخطابات التي تتبناها «التنمية البشرية» لم يعد هنالك وقتٌ للحزن والبكاء، وحتى الحداد صار مكروها، إذ ينبغي علينا أن نتجاوز كل شيء، وأن نبدأ من جديد في لحظة الخسارة نفسها فلا شيء يمكن أن نضيعه في هذه الأثناء وإلا فاتنا شيء ما بكل تأكيد.

أما أنا فأتحصن دوما في قول كيركغارد في كتابه «أما، أو»: إن (الحزن هو قلعتي) وأسمحُ لنفسي بأن تعيش كل ألم يعذبها، أفكر في الألم وأدركه، وأحاول التعافي مجددا عبر التراخي أمام الهزيمة، أؤمن أن الحزن جزء من الحياة، مثله مثل أي شيء آخر، ولا أرى فيه مرضا خبيثا ينبغي أن يستأصل على الفور، ربما لذلك يبدو كل شيء هشا في عالم اليوم، فعندما تحزننا علاقاتنا مع الآخرين، نشعر كما لو أننا نتسمم، فنقرر تجاوزها دون السماح لأنفسنا حتى بمحاولة إصلاح ما كان منها.

تابعت الصحفية دينا ساشان الحساب المشهور على تويتر So Sad Today والذي أطلقته الكاتبة الأمريكية ميليسا برودر، تكتب فيه عن حياتها اليومية، الحزن العادي كأن تقول «كان الاستيقاظ اليوم بمثابة خيبة أمل» وتكتب أيضا «أعرف أنه لا ينبغي عليّ الامتثال لمعايير الجمال التي حددها المجتمع ورغم ذلك أشعر أنني مضطرة لأن أمتثل لها» وفي عصر نكافح فيه لكي نظهر أنفسنا سعداء، خصوصا عبر وسائل التواصل الاجتماعي ينبهنا التفاعل الكبير الذي حصدته برودر بأننا نريد إعادة المشروعية للحزن والتعبير عنه بلا خجل.

تستعيد ساشان ما تسميه إعادة علاقتنا مع الرومانسيين، أولئك الذين وجدوا العزاء في التعبير عن أحزانهم عبر الشعر مثل جون كيتس في كتابه «قصيدة عن الكآبة»، ربما فكر كيتس في روبرت بيرتون الكاهن والباحث الذي كتب «تشريح المينالاخوليا» - وهنا أعبر عن نفوري من ترجمة عنوان هذا الكتاب للعربية بـ تشريح الكآبة - كان بيرتون يؤمن بأن الحزن يمكن أن يتضخم، الأمر الذي لم يسمه بالاكتئاب آنذاك، لكننا بتنا نعرف بأنه كذلك اليوم. تقول ساشان أنها مع زميلتها وات سميث الباحثة في مركز تاريخ العواطف في جامعة كون ماري في لندن تطرحان سؤالا حول ما إذا كان طريق السعادة الحقيقية يمكن أن يكون «الحزن».

إننا عندما نحاول طرد وقمع مشاعر الحزن بحجة أنها مشاعر سلبية، يؤدي ذلك بنا لأن نكون شخصيات «تجنبية» أو نحمل معنا «تروما» صدمات عاطفية لم تعالج حتى مع تقدمنا في العمر. وتشير ساشان للتفكير في الحزن وتجذره داخل التنشئة الدينية، فالفلسفة البوذية على سبيل المثال تدعو للتعرف على العواطف واحتضان الألم بوصفه جزءا من التجربة الإنسانية. وليس أبلغ من ذلك ما أطلقه رسولنا الكريم على العام الذي توفيت فيه خديجة رضي الله عنها بأنه «عام الحزن».

آدم روبرتس بدوره يكتب عن الحزن بوصفه ملهما للفن الخالد، باعتبار الحزن حالة ذهنية أكثر دقة ووضوحا من السعادة، ويتتبع ما كتبه الشعراء والكهنة عن الحزن على مر التاريخ، إذ هو أي الحزن أقل وهما، أو بصفته انعكاسا لنبلنا. بالإضافة لذلك فالحزن يجمعنا على الرغم من اختلافاتنا، إنه مشترك إنساني وذلك ما تنبه له تشارلز داروين في كتابه «التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوان» عندما لاحظ بأن الحزن يتجلى بالطريقة نفسها في جميع الثقافات.

غالبا عند محاولة التعامل مع الحزن خصوصا في حالة الفقد، ما تتم العودة للنموذج الذي صممته إليزابيث كوبلر روس عام 1969 حول المراحل الخمسة الشائعة للحزن. وهي ليست خطية كما تشرح لنا روس في تفسير هذه المراحل. ما يمكن قوله هو الاستناد على التصميم الذي قدمته في قول الآتي: «في الحياة يوميا يطلب منا التحكم في مشاعرنا. عندما تواجه حدثا حزينا قد تشعر أنك منفصل عن الواقع، وأنه لم يعد لك أي مكان تعود إليه بعد الآن. لقد تحطمت حياتك ولا يوجد شيء متين يمكن التمسك به بقوة. فكر حينها في الحزن والغضب كقوة لارتباطك بالواقع. قد تشعر أنك مهجور ووحدك في هذا العالم، لكنه في الواقع يمكن أن يعيدك إلى الواقع ويقوي روابطك بالآخرين، إنه خطوة طبيعية ينبغي الإمساك بها في الطريق إلى الشفاء».