التنوع الثقافي في الزمن المتغير
نعيش في زمن متسارع ومتصارع، متسارع في الحصول على المعلومة ومتصارع بين ثبات الأفكار وتحولها وعلينا التعايش مع الواقع والاستعداد للتعامل مع الطارئ المجهول إذا راهنّا على خيار البقاء في نظام جديد "المرونة فيه هي الثبات الوحيد، والزوال هو الدوام الوحيد، والسيولة هي الصلابة الوحيدة واللايقين هو اليقين الوحيد" كما يقول زيجمونت باومان في كتابه (سلسلة السيولة)، فهل واقعنا مثلما يصفه باومان أم فيه من مبالغة الكُتاب والمُنظّرين، أم هو جزء من الانخراط في سياسة الحياة نتفحص كل خطواتها ولا نرضى بنتائجها، كما ذكر باومان على لسان أنتوني غيدنز.
تُمثل منصات التواصل الاجتماعي في الزمن المتغير منابر لقياس الآراء وانطباع الرأي العام، حول العديد من المسائل الاجتماعية والثقافية وخلال الأيام الماضية – إذا استثنيا مناسبة العيد الوطني- برزت مواضيع هامة على الساحة العمانية لعل أبرزها (راعية الليسو، والعُماني ما طبال)، ومن خلال التعليقات والردود يُمكن معرفة انطباع المتلقي ودرجة قبوله أو رفضه للمواضيع المطروحة، كما يُفهم أحيانا على أنه تعبير نابع عن كبت داخلي لمواضيع أخرى فشل صاحبها في الإفصاح عنها، ووجد بعد ذلك المساحة المناسبة للإدلاء بصوته. ومهما تكن آراء الرأي العام، فإنه توجد مساحة بين القبول والرفض يُمكنها استيعاب جميع الآراء تحت مظلة التعددية الثقافية والانفتاح والانتماء الوطني، لأن الثقافة العُمانية مميزة ومتميزة بتنوع ثقافي لا مثيل له في الوطن العربي، فالموقع الجغرافي والتاريخ السياسي لعُمان أوجدا فُسيفساء من العناصر الثقافية في البيئة العُمانية تفاعل معها الإنسان العُماني على مرور تاريخه، فأضاف لها ما يتوافق معه وحذف منها مالا يتناسب مع ذائقته، فكل جزء في عُمان ساهم ثقافيا في الهوية العُمانية ماديا ومعنويا.
إن التعدد الثقافي لا يزدهر إلا بوجود دولة قوية ترعى وتحمي التنوع الثقافي القائم، والعكس صحيح، إذ تقوى العنصرية والطائفية والجهوية والقبلية في غياب الدولة وضعف سلطاتها، فعُمان الدولة والسلطة استوعبت المكتسب الثقافي الوافد من الفعل السياسي العُماني والاقتصادي والاحتكاك مع الأقاليم المجاورة، واستطاعت تحقيق التآلف بين العناصر الثقافية الوافدة والعناصر الصلبة على الأرض العُمانية. نتج عنه تمازج ثقافي وإنساني بديع، استثمرته الدولة العُمانية المعاصرة في إبراز الهوية العُمانية بتمايزها وأصالتها.
وقد أطرت رؤية عُمان 2040 الهوية بخطط استراتيجية مثل الاستراتيجية الثقافية (2021-2040) التي تسعى أهدافها إلى "تأصيل الهوية الثقافية الوطنية، واستشراف المعرفة المتجددة وفق ثوابت الهوية الثقافية الوطنية، ورفع مستوى الوعي بمبدأ التنوع الثقافي المحلي والخارجي والحوار والنقد البناء، واستثمار التنوع الثقافي كوسيلة للترويج والتعريف بالسلطنة وإبراز دورها في خارطة الثقافة العالمية ... الخ". وتعد الموسيقى مكونا من مكونات الثقافة الوطنية وصناعة ثقافية في ذات الوقت، يمكن توظيفها في أي مناسبة أو فعالية كجزء من الاستثمار الثقافي، تحقق العائد المالي للموسيقيين العازف والطبال والمؤدي والملحن وغيرهم ممن يعمل في الحقل الموسيقي، فإذا رغبت مؤسسة ما في الإعلان عن منتجاتها أو التعبير عن حسها تجاه مناسبة من المناسبات فلها الحق في ذلك طالما أنها لا تعتدي على حقوق الآخرين. وإذا نظرنا من زاوية أخرى سنجد أن المؤسسة التي تنشر مقطعا موسيقيا، أو تنشر صورا فوتوغرافية أو لوحات تشكيلية تساهم في استهلاك المنتج الثقافي المحلي "لأن مجتمعنا هو مجتمع المستهلكين وفيه تظهر الثقافة نفسها، مثل كل شيء في العالم الذي يعيشه المستهلكون، باعتبارها مستودعا للبضائع الاستهلاكية" كما يقول زيجموت باومان. وفي ذلك المجتمع لا يمكن فرض القناعات الشخصية أو إملاء الأذواق على الآخرين، فالمعيار الحقيقي للاختيار هو اختيار الشيء دون إكراه.
تفرض المتغيرات الاجتماعية والثقافية بعد الثورة التكنولوجية تحديا للمجتمعات، فإما المساهمة والتأقلم وتوظيف التقنية الحديثة لصالح الذات أو الاكتفاء بالتفرج على نجاح الآخرين، فبعد مراحل من تمكن الإنسان العُماني من المعرفة الرقمية عليه أن ينتج صناعاته الثقافية فالثقافة تُهمل وتنسى إن لم تواكب العصر وتصبح مصدرا لنفع الإنسان.
