الاختلاف.. ائتلاف لا خلاف
إن المُتتبع لما يدور في وسائل التواصل الاجتماعي من تعليقات وردود أفعال حول مواضيع اجتماعية متباينة بين مؤيد ومعارض يجدها قيمة مضافة، وينظر إلى الأمر برمته نظرة تقدير وإيجاب، نظرًا لما يعنيه النقاش والحوار من رغبة في تقريب وجهات النظر والتفاهم، ناهيك عن كونه قوة دالة على حيوية المجتمع وتفاعله مع شؤونه وشجونه، فالنقاش والاختلاف في الرأي ووجهات النظر سُنة من سُنن الكون، مصداقا لقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) هود: 118-119.
فالاختلاف مستمر بتوكيد الفعل المضارع (لا يزالون)، وهو ما يدعو إلى التدبر والفهم وقبوله كأداة لمعرفة التباين بين الثقافات، ولا يقتصر الاختلاف على البشر، بل ينسحب على باقي الكائنات والتضاريس والمناخات في الكرة الأرضية.
إن الاختلاف في الآراء ووجهات النظر ظاهرة صحية تؤسس لثقافة قبول الرأي الآخر، والحوار معه على قاعدة الاحترام المتبادل، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي السديد كبيرًا في العمر أو صاحب جاه ومنصب اجتماعي أو ثقافي، حتى وإن كانت التنشئة الاجتماعية في بعض المجتمعات العربية تفرض ثقافة الانصياع لكلمة كبار السن، دون إقناع أو حتى محاولة شرح لما يفرضه الكبير على الصغير، وقد يخلق ذلك الأمر تمردًا خفيًا في نفوس الأبناء، لذا لا يتوجب الخضوع لرأي الكبير إن لم يكن مقنعًا، ولا لكلمة المثقف إن جانبها الصواب، ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال مقولته الشهيرة: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب»، وقياسًا على ذلك ورد في الأثر قول: «من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالمًا». من هنا نجد أن ثقافة الاختلاف ليست مفردة مستوردة من الآخر على ثقافتنا، أو أنها دخيلة على مجتمعاتنا، بل راسخة لدى الأسلاف، ولكن القليل منا من يعمل بها.
إن من حسنات الحوار في وسائل التواصل الاجتماعي، إعلان الرأي على الملأ بدل كتمه في الذات، ومعرفة كياسة قائله، وسعة صدره للآراء التي تخالفه ويختلف معها. وهذا بدوره يرسخ لثقافة حرية الرأي والتعبير عنه. وهنا نؤكد على أن حرية الرأي ليست حرية مطلقة، وإنما محددة بإطار احترام إنسانية الآخر وحفظ كرامته.
إن المجتمع العماني المتماسك بشرائحه الاجتماعية والمتمسك بتنوعه الثقافي، يفرض علينا إعادة قراءة مكوناته الثقافية المتعددة، فتنوع العادات الاجتماعية في مناطق سلطنة عمان، يدل على الثراء الثقافي، بل يعكس الفُسيفساء العمانية المتفردة في المنطقة العربية، ولا أبالغ إذا وصفنا ذلك بالحالة العُمانية المُميزة التي أسهمت في تكوينها عوامل سياسية وثقافية وجغرافية وتاريخية متعددة، لا تقبل خضوعها لرأي أُحادي حاد النظرة، لا يأخذ في الاعتبار المُعطيات الواردة أعلاه. لذلك لا أستغرب وجود تجاذبات ونقاشات حول عادات اجتماعية قد تكون مقبولة في منطقة ما، ومرفوضة في منطقة أخرى، ومن يتطرف في فرض قناعاته على الآخرين قد لا يجد لرأيه قبولًا في المجتمع، خاصة الجامد في الطرح والأحكام غير القابلة للنقاش، أو المكارثي في الحكم، ممن يتهم الآخرين بما ليس فيهم.
إننا نعيش في المجتمع العماني المُحافظ على السلم الأهلي، الذي يعد مكسبًا اجتماعيًا ترسخ في الأرض العمانية، وتجذر أكثر منذ نصف قرن، ولذلك يمكن النقاش في أي مسألة من المسائل دون المساس بالتعايش السلمي الاجتماعي.
إن من طبيعة المجتمعات المتصالحة مع ذاتها، استيعاب التغيرات الطارئة على مكوناتها الثقافية، واستغلال التحديث للتقدم والنهوض، فمن لا يؤمن بالتغيير أو بالتجديد فلن يجد لنفسه موطئ قدم في زمن لا يؤمن إلا بمن يقبل بالتغيير كأمر حتمي.
محمد الشحري كاتب وروائي عماني
