الأذواق المسلوبة.. تسليع الخيار والقرار

28 مارس 2022
28 مارس 2022

لا يمكن التنكر لما أحدثته الثورة الرقمية من تأثير في أنماط حياتنا، وهيمنة وسائل الترفيه والتواصل الاجتماعي على حياتنا اليومية، وتحكمها في خياراتنا وقراراتنا، إلى درجة أننا لا نذهب إلى أي مكان إن لم توجد به إشارة إرسال لشبكة الهاتف، ولا نستأجر في فندق إلا إذا وُجِدت به شبكة (الواي فاي)، والبعض لا يقرب على الطعام أو يأكله إلا بعد تصويره، وأصبحت مشاعرنا وخصوصيتنا متاحة على شبكة الإنترنت. يقول الكاتب المغربي سعيد بكراد في مقدمة كتاب (أنا أوسيلفي إذًا أنا موجود: تحولات الأنا في العصر الافتراضي) للكاتبة والباحثة إلزا غودار، "لقد اختفت الحميمة وأصبحت الحياة الخاصة نوعا من الشذوذ". فاستباحت عدسات هواتفنا الذكية زوايا بيوتنا، وأصبح الآخر يتلصص على ما ننشره من صور وكلمات عن ذواتنا إلى درجة أننا أصبحنا كائنات مفضوحة لا تحتفظ بأسرارها.

وصارت الصورة بديلا عن الكلمة، فأعادت الاعتبار للكتابة التصويرية فيما يُعرف (بالإيموجي emoji)، وتحوّل الإنسان السيلفي إلى منتج تجاري يتم استغلاله من قِبل وكالات الإعلانات والإشهار، حيث يُدفع له مبلغ من المال مقابل الترويج لسلعة وبضاعة قد لا يكون مقتنعا بها، فالمهم هو الحصول على المال، هذا النوع من التسويق الذاتي بدأته العارضة كيم كاردشيان، التي استثمرت تجاربها الشخصية وما تعرّضت له في مراهقتها في الترويج التجاري، وأصبحت نجمة في تلفزيون الواقع. وصار لها مقلدون ومقلدات في مجتمعاتنا.

تقول إلزا غودار مؤلفة كتاب (أنا أوسيلفي) "إن الشخص الذي يلتقط الكثير من السيلفيات يفتقر إلى الثقة في النفس"، لكن اهتزاز الثقة تلك أكسبت البعض متابعين ومعجبين، يلتقفون ما يروجون له ويقتنونه بلا قناعة ولا رضا، فمرة أخبرني شخص أنه لا يلتفت إلى بعض المقتنيات إلا إذا وجد من يُروج لها، ذلك الفرد فقد ثقته في ذوقه وفردانيته، ولجأ إلى المروج. هكذا يتم إذكاء النزعة الاستهلاكية في المجتمع، الذي تلومه المترجمة مشاعل الهاجري، في مقدمتها لكتاب نظام التفاهة لآلان دونو، "ما يجعل كثيرا من تافهي مشاهير السوشيال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر النجاح، هو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه.....، من يُنكر الآن أن المشاهير والفاشينستات قد حققوا النجاح فعلا، وفقا لمعيار المال، وهو المعيار الوحيد الذي وضعه مجتمعنا نصب أعين شبابه؟" وفي الكتاب ذاته يكتب آلان دونو على لسان كورنيليوس كاستورياديس: "إن مشكلة المجتمع الذي نعيش فيه أنه توقف عن مساءلة نفسه، إنه مجتمع لم يعد يرى أي بديل عن نفسه، ومن ثم تنصل من الواجب الذي يحتم عليه فحص افتراضاته الصريحة والضمنية وتوضيحها وتبريرها فضلا عن إثباتها". لكن هل يستطيع المجتمع أن يتحرر من السيل الجارف من الإعلانات والإشهارات التي ينشرها دعاة التسليع، الذين توظفهم الشركات أو أصحاب المصلحة لصالحها ولا تعير لهم أي قيمة. نعم يستطيع المجتمع فعل ذلك حتى ولو قالت عنه مارجريت تاتشر "لا يوجد شيء اسمه المجتمع"، تاتشر ذاتها روّجت لخصخصة الخدمات والمؤسسات، وساهمت في صعود الرأسمالية والشركات المهيمنة على صنع قرار السلط السياسية.

يعاني مشاهير الومضة في وسائل التواصل الاجتماعي من ضعف في المحتوى، ناهيك عن المياعة في الاستعراض وطُرق الإقناع، التي ينقاد إليها من يعانون من الخواء وعدم الاستقلال الذاتي في القرار والاختيار، إننا نعول على حرية الفرد في الاختيار دون تدخل أو تأثير أي مؤثر في قراراته سواء كانت مؤسسات أو حتى خُطب حملات الترويج الجشعة التي تخاطب الغرائز، وتحوّل المتابعين والمشاهدين إلى بطون جائعة أو أجساد عارية ما لم يحصلوا على ما تسوّقه لهم الشركات.

إن الصراع من أجل التحرر في المستقبل سيكون من أجل استقلال الفرد عن هيمنة التسطيح والتسليع اللذين يغزوان المجتمعات في الوقت الحاضر، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي قال عنها سعيد بكراد في مقدمة كتاب (أنا أوسيلفي) "لو اختفت شبكات التواصل الاجتماعي لا قدّر الله لأصيب نصف العالم بالجنون والاكتئاب".