احتضار خاطف أم موت بطيء؟!

23 سبتمبر 2025
23 سبتمبر 2025

كنت صباح السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ أستعدُّ للعودة من الرياض إلى مسقط. دُعيت من هيئة الأدب والثقافة لحضور معرض الرياض الدولي للكتاب. أتذكر جيدًا لحظة استيقاظي عندما بعث لي صديقي «الغزي» رسائل كثيرة أقلُّها حدةً أن هذا اليوم هو أحلى أيام حياته. 

شاهدتُ الجدار المفتوح والناس يدخلون ويخرجون، وأكثر ما ترسَّخ في ذاكرتي الأطفال الفرحون فرحةً تتجاوز الأعياد. كل من دخل في ذلك اليوم أو كتب على منصات التواصل الاجتماعي عن وجوده هناك، أو اشتبه بقربه من الجدار اغتالتهم إسرائيل. 

ذُعرتُ ممّا حدث. كانت الحادثة (طوفان الأقصى) بمثابة ثورة بالنسبة لي: القفز فوق المسلّمات، تفكيك البديهيات. حتى أكثر أنظمة العالم وحشيةً وعربدةً بتقنياتها غير المحدودة يمكن أن تمزّق من جماعة صغيرة مُراقَبة طيلة الوقت ومحاصَرة منذ ٢٠٠٧. مع ذلك كلِّه كان الهلع التام انفعالي الأول. قلتُ: سيقتلونكم جميعًا! لن يتبقَّى لنا من غزة شيء. 

مرت سنتان على ذلك اليوم؛ فقدت ملاك أخواتها. نور فقدت أخاها أيضًا. حسن فقد جدَّته. ماجد فقد أباه. عبد العزيز فقد عمَّته. كريم فقد أخته وأولادها. خالد فقد أخاه. مادو فقد أخته ولا يعرف مصير أخيه حتى هذه اللحظة. محمود فقد أخته وأطفالها. هؤلاء أصدقائي المقربون من غزة. لم يتبقَّ صديق مقرب لي من هناك لم أذكر اسمه. الكارثة أنني لن أستطيع حصر الأشخاص الذين فقدوهم من الدرجة الثانية في عائلاتهم. المصيبة أنهم جميعًا بلا استثناء سويت بيوتهم بالأرض. جميع عائلاتهم في هذه اللحظة يحتضرون من الجوع، ومن أمراض بسيطة مثل الضغط والسكري، وحساسية الجلد. جميعهم نزحوا مئات المرات ولم يتبقَّ لهم وجهة. جميع أصدقائي الذين يعيشون مشتتين في مدن متباعدة يتمنون العودة لغزة؛ فمراقبة موت عائلاتهم من الخارج قتلتهم ملايينَ مرّات. 

قال لي حسن ذات مرّة: إن أمه في الحروب السابقة تطلب أن يختبئوا في مكان واحد غالبًا تحت درج البيت من الداخل؛ فإن أصابتهم قذيفة سيموتون معًا. لكن حسن الآن في الدوحة فقد وزنَه. يُعدُّ تقارير في وظيفته عن التغير المناخي في الوقت الذي تسمّم فيه أبواه وإخوته الخمسة بالماء. لم يلتقِ بعائلته منذ ما يزيد على خمس سنوات. أتذكر اليوم الذي غادر فيه غزة بعد أن دفع آلاف الدولارات من أجل ما يسمى «التنسيق»؛ إذ إن الشباب الغزيين لن يتمكنوا من السفر إن لم يفعلوا ذلك. وعندما وصل إلى المعبر كان مهدَّدًا كما صديقه عمرو -الذي ما زال في غزة بالمناسبة- بأن يُعاد إلى البيت. فلنضع في الحسبان أن أسمَاءهم مرّت قبل نزول القوائم بإجراءات أمنية عديدة من حماس إلى إسرائيل إلى مصر. عندما صدرت القائمة نشرها الصحفي حسن أصيلح الذي استُشهد قبل أسابيع أو أشهر. فقدنا الاتصال بحسن لأيام. طمأننا ذلك من أنه تمكّن من الخروج فعلًا. وعندما تواصل معنا بعدها كان في غرفة الترحيلات في مطار القاهرة يستعد للسفر إلى إسطنبول. لم تكن العودة ممكنة؛ إذ إن هذا الجحيم سيتكرّر في كلِّ مرّة يدخل فيها غزة أو يغادرها، ومع أنه لا يتحدّث أبدًا عن ذلك، إلا أننا نراقب موت صديقنا بعنف بينما ينتظر أي إشعار على هاتفه. 

هل يعقل أن هذه السنوات مرت؟ أننا اختبرنا كل أنواع العذاب، وعشنا مكبّلين لا أمام أشخاص ننتمي إليهم كما ينتمون إلينا فحسب، بل أمام أصحابنا المقربين؟ تقول صديقتي الفلسطينية الغزية التي غادرت غزة بعد سبعة أشهر من الحرب بأنها مع وصولها إلى مسقط وقضائها هنا شهرين حتى هذا اليوم نزعت عن جلدها طبقة ميتة. ما زالت هنالك طبقات عديدة، وهي بحاجة لمضاعفات من «مسقط» لعائلتها التي لم تتمكّن من مغادرة غزة. 

تسألني بينما نجلس بتبطّل في صالة مكتبة بيتي: أمل هل نذهب لمعرض الكتاب في الرياض سيفتتحُ قريبًا؟ أما أنا فأستأذن الدخول إلى غرفتي، وأبكي هناك بهستيرية متوسّلةً القدر أن يتأخر المعرض قليلاً؛ ألا يكون علامة زمنية عنيفة، وأن يرحم العالم أصدقائي الذين فقدتهم بدوري، وأن ينزع عنا طبقات جلد اكتسبناها بعنف لا مثيل له. 

كُتِب العالم كله؛ كُتِب التاريخ أجمعه لا تعني شيئًا ونحن شهود على البطش والرعونة والوحشية والانحطاط والسقوط الأخلاقي والشر المحض؛ لعلّه التعبير الأنسب: شر محض و«سايكوباثية». 

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية