إشراقة شجرة البرقوق الأخضر

23 نوفمبر 2021
23 نوفمبر 2021

وكأنما تتحقق نبوءة الكاتبة الإيرانية «آذر نفيسي» في كتابها «لوليتا تقرأ في طهران» الذي نُشر عام 2003 وهو أشبه بمذكرات عن حياتها قبل وإبان الثورة الإيرانية، عندما قررت أن تجتمع بمجموعة من طالباتها في صالون أدبي داخل منزلها. كانت آذر قد كتبت عن لوليتا لفلاديمير نابوكوف الرواية التي لا يقرأ فيها البعض سوى التفسخ الأخلاقي في علاقة رجل كهل بصبية صغيرة، في حين أنها وبحسب آذر نفيسي عملٌ ثوري ضد الدولة الشمولية والاستبداد. ربما لاعتياد هؤلاء أنفسهم على القراءة الحَرفية للأدب. في رواية صدرت عام 2015 وترشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر 2020 تكتب شكوفة آذر كاتبة إيرانية أخرى عن صبية تدعى بيتا، تقف عند حاجز عسكري بعد الثورة الإيرانية لتفتش السيارة كاملة فيجدون معها رواية «مائة عام من العزلة» لماركيز فيقررون تركها وشأنها وعدم مصادرة الكتاب، إذ إنه لا يُخرب قيم الثورة الجديدة ولا يدعو للتمرد على النظام الحديث.

ومن عنوانها العذب «إشراقة شجرة البرقوق الأخضر» تجذبك هذه الرواية، فمنذ أن وقع اسمها على مسمعي العام الماضي ولم أستطع نسيانه، حتى تبعتُ خيط رغبة دار نشر عربية في ترجمته وهي دار سرد وممدوح عدوان، التي أصدرت الكتاب هذا الشهر للمترجم غسان حمدان. عندما تبدأ بالقراءة، يلفك ومن الصفحة الأولى إيقاع الثقافة الفارسية، فإشراقة في العنوان مثلاً تعني لحظة التنور في آخر طريق التصوف، وهي لحظة ستصل إليها الأم روزا في هذا العمل لتكشف عن حقيقة أحداث ستعبرها هي وعائلتها التي انتقلت من طهران بعد الثورة لقرية نائية اسمها «رزان» في بيت تحيط به البساتين ولا طريق يوصل إليه، وعلى شجرة تطل على البيت، يعيش شبح ابنتهم بهار التي احترقت جراء أعمال عنف في طهران أيام الثورة.

ومع الاستمرار في القراءة نتعرف على سهراب، الابن الأكبر الذي سيصبح معتقلاً سياسياً ثم سيتم إعدامه ليدفن في مقبرة جماعية جنوب إيران، الاسم يوقظ في الذاكرة وعلى الفور اسم الشاعر الفارسي العظيم سهراب سبهري الذي سنكتشف أن الأم أسمت ابنها عليه، اذ تخيلت ذات مرة وهي تقرأ قصيدة «المسافر» لسهراب أنها تمشي معه فوق شارع ناصر خسرو في طهران، لكنها فقدته، وتعرفت على زوجها الذي ستتزوجه لأنها لا ترغب في خسارة سهراب آخر، فأنجبت ابناً لتسميه سهراب. إن هذا كله يمكن أن يخبرنا الكثير عن القصة التي تغرف من معين الثقافة الفارسية، الميثولوجيا فيها وعلاقتها بالسحر، والشعر، منذ حافظ الشيرازي وحتى سهراب، الأبيات التي ستدفع نفسها بين نصوص السرد كل حين في أغلب فصول العمل، ليصبح سحر هذه الثقافة الغنية والثرية الطريقة التي ينبغي أن ننظر من خلالها لعالم هذه القرية المنسية، وقصص الناس فيها.

لا يتوقف العمل عند الثورة وحدها، بل تُشركُ «رزان» في الحرب الإيرانية العراقية، لتتحول أمهات «رزان» لأمهات يتيمات، مع علامات تميزهن بعد فقدان الأبناء في الحرب.

إلا أن العمل يفتقد في بعض فصوله لإيقاع سردي منضبط، فيبدو أننا نقرأ فجأة عملاً واقعياً وغير فانتازي، حتى أن ملاحظة الكاتبة في آخر فصول الرواية التي تقول لنا إن القص الخالي من السحر، إنما هو من فعل بطش النظام الذي يفعل أول ما يفعل أن يصادر المخيلة، وأن يجعل الحكايات أكثر منطقية ومعقولية، فالسحر حرام، إن لم يكن ضرباً من الجنون. كما أن الإشارة لكتب وكتاب عالميين وحتى اقتباسهم كأن نجد اقتباساً للكاتب الأمريكي «بوكوفسكي» في معرض تعبير شخصية عن نفسها، ليبدو غريباً بعض الشيء، إنني لا أقول أن هذا غير ممكن، لكنه بدا لي على الأقل في سياق الحكاية هنا هجيناً وغير أصيل. ربما يعود ذلك لكون هذا العمل هو الأول لكاتبته.

كان مفاجئاً بالنسبة لي عندما بحثت عن الكاتبة بعد القراءة أنها قالت في إحدى المقابلات، إنها كتبت الرواية للقارئ الغربي، إن اعترافا كهذا يمكن أن يفسر الكثير عن اتجاه العمل ومعالجته، يبدو بالنسبة لي أنها لم تكن موفقة في إجابتها هذه، لكن مع ذلك تصل الرواية لقائمة واحدة من أهم ان لم تكن الأهم - جوائز الرواية في العالم، وتنافس الرواية الفائزة والرائعة بالمناسبة ذلك العام «شوجي بين» لكاتبها دوجلاس ستيورات وكنتُ قد كتبتُ عنها مراجعة هنا قبل أشهر.

ربما لأن هذا ما يريد القارئ الغربي أن يعرف الكاتب المهاجر به نفسه، كنتُ محظوظة أنني مع نهاية هذا العمل قرأتُ شهادة مهمة للكاتب المصري أحمد ناجي الذي يعيش في أمريكا والتي نُشرت هذا الأسبوع بعنوان «أتلفت خلفي، فأرى آثاري ولا أرى نفسي» الذي يجد نفسه ولكي يعيش ويعمل ويتعلم في منفاه الجديد مضطراً لتبني هوية مُعرفة بالنسبة للواقع الجديد الذي يفد إليه، هوية تقولبه فيما يرادُ أن يسمع منه بصفته كاتباً منفياً، فيصبح رغماً عنه «الكاتب البني» إذعاناً لسلطة قاهرة ولا تبالي.

هنالك بعض الالتماعات الدافئة في النص، شعرتُ بأنني معنية بما هو مكتوب عندما بدأ الأب بالصراخ، تحديداً على أخيه خسرو، الذي اعتزل العالم، وظل يتنقل بين المعابد الهندية، ويقرأ كتب التصوف، وزهد عن كل ما في الحياة، فقال له الأب: ما الذي استفدناه من تصوفك عندما وقعت الحرب والقتل والدمار؟ فتأتي إجابة خسرو بعد تمهل وإبطاء بأنه على الأقل لا يريد أن يكون متورطا في هذا العالم المتوحش وهذا للأسف أقصى ما يمكن أن يفعله. مع أنني وفي الوقت نفسه شعرتُ بأن على الكاتبة أن تعود للثقافة الفارسية لتقدم لنا جواباً يرتبطُ باستمرار هذه الثقافة في خلق هذه المناخات والطقوس على مر التاريخ، لقد بدت لي إجابة مستسلمة وواهنة وكسولة وغير حقيقية.

بقي أن أقول إنني أحببت الكتابة في هذه الترجمة، وهي مناسبة لتوجيه الشكر للمترجم غسان حمدان الذي قدم لنا ايضاً ترجمة الأعمال الكاملة لسهراب سبهري.