إدانة الأمل

12 سبتمبر 2023
12 سبتمبر 2023

هل يمكن أن يعطلنا الأمل؟ نيتشه يرى بأن الأمل أسوأ الشرور، ويمكن أن نقرأ هذه الفكرة على مستويات عديدة في الحياة، لكن ماذا عن الأمل في التغيير؟ على ماذا يعتمد هذا النوع من الأمل؟ ألا يمكن أن يكون نشاطا سلبيا نسلم من خلاله عجزنا عن مواجهة الواقع وتحدياته دون أن نعترف بأنه شكل للاستسلام ينضوي تحت إيمان مضلل بقيمة إيجابية مثل الأمل؟ عملت الأكاديمية والكاتبة الأمريكية سامنثا روز هيل التي ألفت كتابا عن المنظرة السياسية حنة آرندت عام 2021 على تقصي موقف آرندت المضاد من الأمل وأسبابه. آرندت التي كلفت طلابها دوما بقراءة كتاب « Hope Against Hope» للكاتبة Nadezhda Mandelstam والذي لم يترجم للعربية بعد، آمنت آرندت بأن هذا الكتاب يمثل إحدى الوثائق الحقيقية والمهمة في القرن العشرين. يُعنى الكتاب بالحياة في ظل نظام ستالين والنضال من أجل البقاء. وأمام فلسفة آرندت حول الأمل والتغيير السياسي، لابد أن نضع نصب أعيينا ما يحدث في العالم اليوم، من تصاعد الخطاب القومي المتطرف، والشعبوية التي تُحضر البشرية لاعتبار «النازية الجديدة» وما ماثلها موقفا مشروعا، بينما لا نفعل أي شيء عدا أن نأمل أن ينتصر الخير في النهاية. وأن يصبح العالم مكانا آمنا للاجئين والمهاجرين، والأقليات.

تبدأ هيل كتابتها عن آرندت وزوجها بينما ينتظران تسلم أوراق خروجهما صيف عام 1940، في الوقت الذي كان فيه أي يهودي مهدد بالقتل، لكن آرندت وبلوخر لم يستسلما لليأس، استكشفا الريف الفرنسي بالدراجات، وقرأ الروايات البوليسية ليلاً. حولت آرندت هذا الوقت المظلم إلى تجربة حيوية، واعتبرتها بمثابة فرصة سانحة للعمل على ما تحب. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: هل هذه هي الطريقة التي نتصرف بها عادة عندما تكون حياتنا في خطر؟ ما الذي مكن آرندت من استغلال الوقت بهذه الطريقة في ظل تجربة مؤلمة؟ تكتب هيل: «لم يكن الأمل.»

تؤمن آرندت أن الأمل يشكل عائقاً خطراً أمام التصرف بشجاعة في الأوقات المظلمة. وهي كما نعرف من خلال كتاباتها لا تؤمن بالتقدم الحتمي للتاريخ. الأمر الذي جعلها تشعر باليأس من الديمقراطية وإمكانية إنقاذ الحرية في العالم الحديث. وترصد هيل حضور فكرة «الأمل» في كتابات آرندت البارزة ففي مقالتها «ما هي الحرية» تسأل آرندت: «ما هي الحرية، يبدو أنها شيء ميؤوس منه؟» وفي كتابها «أصول التوليتارية» تكتب عن اليأس والخوف بصفتهما الأكثر قدرة على مقاربة ما يحدث بدلاً من ادعاء البصيرة والحكم الموضوعي المتوازن». ويظهر موقف آرندت الأكثر تدميراً للأمل في مقالتها «تدمير ستة ملايين» الذي نشر عام 1964 وكانت آرندت تناقش فيه سؤالين هما: السبب وراء التزام العالم الصمت بينما كان هتلر يقتل اليهود، وجذور النازية في نظرية المعرفة الأوربية. أما السؤال الثاني فهو: مصادر العجز والتسليم بين اليهود. تقول آرندت في إجابتها عن السؤال الأول: «العالم لم يصمت، ولكن باستثناء عدم الصمت، لم يفعل العالم شيئا، كان لدى الناس الجرأة على التعبير عن الصدمة والسخط والرعب بينما لم يفعلوا شيئاً. لم يكن تصدير بيتهوفن واللغة الألمانية وترجمتها هما ما جعلا المثقفين ينساقون وراء النازية، كان ذلك بسبب عدم الرغبة في مواجهة الحقائق، والهروب إلى جنة الحمقى وأيدلوجيا الأمل. ولإجابة السؤال الثاني لجأت آرندت لمذكرات الشاعر البولندي بورفسكي الذي اختطف في صباه لإحدى معسكرات الاعتقال النازية، كان قد كتب أنه لم يحدث أن كان الأمل أقوى من الإنسان وما يحدث بالفعل، وفي المقابل لم يحدث ضرر بقدر ما حدث في هذه الحرب، لذلك نموت اليوم في غرف الغاز.

تستمر هيل في رصد الآثار التي يتسبب بها الإيمان بالأمل خلال الأزمات كما ظهرت في مقالات آرندت المبكرة خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، والتي اتسمت ببحث آرندت التاريخي في السياسة اليهودية والتي وجدت أن العدوين اللدودين لها هما الأمل والخوف اللذان استخدمهما الألمان بدقة في حربهم على اليهود، يتضح ذلك مع طلب الألمان عددا محددا للترحيل كل يوم من إحدى الأحياء اليهودية، وبدلاً من القتال، أو حتى مناقشة الأمر، تطوع الآلاف من اليهود للترحيل، ظنا منهم أن ما يحدث هو محاولة لإعادة التوطين داخل الحي اليهودي، بينما كانوا يساقون لغرف الغاز.

في كتابات آرندت المتأخرة، تستبدل الإيمان بالأمل، والإيمان بفكرة الولادة، مفهوم الولادة مربك ومشوش وأنثوي، ينطوي على جذر الفعل الوجودي الأول. وتشير إلى اتجاه يعمل على قطيعة مع تقاليد الفكر السياسي الغربي، وبدء فكر جديد من أجل إنقاذ الوجود الإنساني، إن الولادة معجزة وهي عفوية ولا يمكن التنبؤ بها. الولادة تعني الانفصال عن الوضع الحالي وبدء شيء جديد. ويمكن بسهولة الانزلاق للتفكير في الولادة بوصفها أملاً أيضاً، لكننا سنكون مستعدين بشكل أفضل فيما لو استخدمنا كلمة «البداية» كمرادف للمعنى الذي قصدته آرندت في الولادة. في دراسة آرندت للفكر السياسي الإغريقي وجدت أن الأمل لطالما اعتبر قرينا للخوف والشر، اعتبر ثوسيديديس مثلا أن الأمل هو نوع من التساهل الخطر، تكلفته باهظة وهو بلا شك سبب للخسارة.

ولنتأمل فكرة آرندت هذه: «الأمل هو شيء لدينا، أما الولادة فهي شيء نقوم به» إن الفكرة الجوهرية في اتجاه آرندت هذا هو أن التغيير يحدث بالعمل لا بالأمل! الأمل يخرجنا من اللحظة الراهنة. ربما ما علينا فعله إذن وقبل أي شيء، الآن وفورا هو أن ندين الأمل.