إحياء الميادين المُعطّلة

17 يناير 2022
17 يناير 2022

ظهر الاهتمام مؤخرا بمفهوم أنسة المدن لدى جهات أخرى غير جهات التخطيط العمراني، إذ وجدت مؤسسات ثقافية وبيئية أنها مسؤولة بشكل أو بآخر عن مواجهة التحديات اليومية لسكان المدن، وحاجتهم إلى متنفسات وفعاليات تُعين إنسان المدينة على التأقلم مع محيط يوحي له بالإبداع ويشعره بالاستقرار والاطمئنان في مكان سكناه وعمله. لذا أعادت بعض المدن التفكير في تطوير الطرقات والساحات العامة والحدائق، لتنسجم مع التطور المتسارع لنمط الحياة الحضارية، واستيعاب التنوع الاجتماعي للسكان، بواسطة مرافق تُعيد للمدن روحها الإنساني وتؤنسن الأحياء السكنية، حتى لا تتحول إلى كتل خرسانية موحشة وكئيبة، لذلك سعى القائمون على البلديات المحلية إلى بناء المرافق كالمسارح وأروقة الفنون التشكيلية والحفلات الغنائية التي تسمح بالتواصل الاجتماعي، وإيجاد بيئات ثقافية باذخة بالروحانيات، تسمح باستغلال الإنسان للوقت الحر في الترفيه والتمتع بالإجازات الأسبوعية والرسمية.

لقد تضمنت أهداف الاستراتيجية الثقافية في محور الثقافة والمجتمع، أنسنة المدن ثقافيا، وضمن هذا الإطار ننتظر من المحافظات العمل بالتوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أبقاه الله- أثناء لقائه بشيوخ محافظتي الداخلية والوسطى، فيما يتعلق بسعي الحكومة نحو تطبيق اللامركزية بخصوص القرارات التي من شأنها تنمية المحافظات وتطويرها. وهنا نقترح على البلديات المحلية تنشيط الميادين والساحات العامة عبر الفعاليات الترفيهية وتخصيص أيام للتسوّق في الساحات، الأمر الذي يسمح للأفراد والأسر المنتجة عرض منتجاتهم وإيجاد فرص وظيفية للباحثين عن العمل، وتحقيق دخل مالي لمن يستطيع استغلال وقته، والتكسب من خلال مشاريع صغيرة ومتوسطة.

فعلى سبيل المثال نقترح على المعنيين بالأمر تشغيل الساحات العامة والميادين التي صُرفت عليها ملايين الريالات، ولا تُستخدم إلا مرة أو مرتين في العام أثناء الاحتفالات الوطنية والدينية، فمثلا يوجد في مدينة صلالة ميدانان، أحدهما ميدان الاحتفالات بصلالة الجديدة، لا يُستخدم إلا في "هبوت" المواطنين واحتفالاتهم بالعيد الوطني أو عيدي الفطر والأضحى، ولا تتجاوز مجموع أيام الاحتفالات في السنة أكثر من أسبوعين، أما الميدان الآخر الذي اكتشفته لأول مرة عام 1997 أثناء مشاركتي في المهرجان الشعبي بمناسبة العيد الوطني السابع والعشرين، فهو ميدان النصر بصلالة، ولم أسمع من وقتها أنه استضاف مناشط أو فعاليات، أو شُغّل لأي مناسبة من المناسبات الوطنية، فما قيمة تلك الميادين إن لم تُستثمر أو تُستغل وتساهم في التنمية.

إن استثمار الميادين والساحات عادة متّبعة في العديد من المدن العربية والأوروبية، فتقام فيها المهرجانات الفنية والحفلات، وتخصص لها أيام معيّنة للتسوّق ونصب الأكشاك، فتعرض أحيانا بعض المنتجات التي لا تتوفر أحيانا في المحلات التجارية، خاصة المواد الغذائية الطازجة والغلال الموسمية كالفواكه والخضروات.

وجرت العادة أن تستغل الساحات في المدن الأوروبية كأسواق أسبوعية خاصة في مناسبة أعياد الميلاد، فلما لا تُستنسخ تلك التجربة، حتى يستفيد منها المواطنون الذين يعرضون بضائعهم على الطرقات وأمام المحلات التجارية الكبرى، فالأسواق المؤقتة في نهاية الأسبوع يمكنها استيعاب منتجات الباعة سواء كانت أكلات شعبية أو مشغولات يدوية أو أي صناعة من الصناعات اليدوية المحلية، ومن المهم جدا السماح للمواطنين فقط بالبيع في الساحات والميادين، وتقتصر أعمال الأيدي العاملة الوافدة على الخدمات، حتى يكسب المواطن بشكل مباشر ويعود النفع على المواطن والمؤسسة الحكومية (البلدية) والقطاع الخاص. ففي مدينة ماننهايم الألمانية يُقام سوق السبت فتُنصب الأكشاك صباحا، وتغلق في الثالثة عصرا، وتسمى تلك الساحات بساحة (Marktplatz)، وفي مدينة الزهراء التونسية التي أقمت بها أيضا، يُقام سوق الخميس، ولدينا في عُمان أسواق مثل سوق الخميس وسوق الجمعة. فنتمنى أن تتطور وتُنظم في ساحات أكبر وميادين أوسع.

يُمكن تنشيط الأمكنة المذكورة أعلاه ببعض الفقرات الموسيقية أو الألعاب الشعبية، أو تخصيص أماكن للعب الأطفال في الوقت الممتد بين العصر والمغرب، أو ممارسة بعض الألعاب الشعبية، وستتحول الأسواق المؤقتة إلى مزارات سياحية يقصدها السياح والمقيمون.

إننا نعول على أنسنة المدن ثقافيا، حتى نجد ساحات مدننا موظفة توظيفا أدبيا، مثلما فعل الروائي الإسباني كارلوس زافون ( 1964-2020) في سلسلته الروائية مقبرة الكتب المنسية (متاهة الأرواح، ظل الريح، لعبة الملاك، سجين السماء)، إذ طاف بنا في ساحات مدينته برشلونة وشوارعها وأزقتها ومحلاتها وحاراتها العتيقة.