أديب من هذا الوطن

16 نوفمبر 2021
16 نوفمبر 2021

حدث ذلك في عام 2015 عندما كنتُ أعمل صحافية لدى صحيفة إلكترونية، نظمتْ مهرجاناً للشعر، وكُلفتُ حينها بملازمة الشعراء في النزل الذي اختارته الإدارة وكان في الخوير، قضيت تلك الأيام في الركض لمساعدة الوافدين القادمين من دول عربية عدة، لكن وما أن يحلّ الليل حتى أستسلم لشعور قاتم، وحزن هو عرض للمشاركة في الحياة الصاخبة والسريعة. ما زلتُ أحتفظ من تلك الليالي بتسجيل صوتي لقصيدة للشاعرة فروغ فرخزاد على حساب ساوند كلاود، وعنوانه "الهاربة"، لكن ليس هذا ما يهم، كنتُ في تلك الأيام أقرأ كتاب "تشظيات أشكال ومضامين: عنوان مبدئي في أحسن الأحول وأسوئها" للكاتب والسينمائي عبدالله حبيب، يعرضُ الكتاب مقاطع شعرية ويوميات للكاتب في أمريكا حينما كان يدرس هناك، وتأملاته بشأن الحياة والأصدقاء والغربة والأهل والحب والوطن، والشعر. ومع اليوم الأخير من المهرجان وقد تبقى عليّ نقل المسافر الأخير من المشاركين إلى المطار، لم أتمكن من النوم، سهرتُ على قراءة الكتاب وحيدة في غرفتي، حتى طلع الفجر، وتسللت خيوط الشمس من ستارة دانتيل بيضاء شفافة، ومع الصفحة الأخيرة من الكتاب، كانت دموعي قد جفت في مآقيها، ولأن عبدالله حبيب يكتب خصوصا في الصفحات الأخيرة من كتابه عن صحم، التي نشأتُ فيها حتى غادرتها للدراسة الجامعية، شعرتُ برغبة جارفة في أن أستقل سيارتي وأن أعود على الفور إلى صحم، حيث يمكنني أن أستنشق من هوائها ما أنا في حاجة ملحة إليه، ولأتأمل تلك البلاد الصغيرة، كيف تُحرر نفسها في أرواحنا وأعيننا، لقد بات لذلك المكان سحر مضاعف منذ ذلك الوقت، كأنما أمسكتْ كتابة عبدالله حبيب بتلابيب القصة الخاصة بالبلدة الساحلية التي أعرفها. فعلتها إذن اعتذرتُ عن نقل المسافر الأخير، وسافرت بدوري إلى هناك.

سيصادف موعد نشر هذه المقالة احتفالات العيد الوطني في بلادنا الحبيبة، أردتُ أن أكتب وكما جرت العادة عن الكتب، والأدب، كيف يشكلان أي شيء وكل شيء، عندها خطر على بالي سؤال بسيط كانت قد طرحته الكاتبة وأستاذة الأدب المقارن آذر نفيسي على نفسها عندما حصلت على الجنسية الأمريكية، ما الذي يعنيه أن يكون المرء أمريكياً؟ ولأنها لا تعرف سوى الأدب، قررت اكتشاف ذلك من خلال ثلاثة أعمال أدبية أمريكية، أما أنا وعندما فكرتُ في الأمر، تذكرتُ على الفور كتابة عبدالله حبيب، كيف تحضر "الشريشة" في نصوصه، والوديان، وبحر صحم الذي كان حظي من رؤيته قليلاً، يحضرُ الليمون في تنويعات، مرةً وهو عطر، ومرة وهو ثمرة، وصحم تُعرف بشجر الليمون، وكنتُ أنا نفسي كتبتُ قبل سنوات قصة سميتها شجرة الليمون.

يتعلم المرء إذا عن نفسه وعن وطنه من أدبائه، بل أنني أجزم أن كثيراً من الوشائج بيننا وبين أوطاننا تتعقد أو تنفلت عند قراءة القصص التي تُكتبُ عنه.

أود بصورة خاصة أن أعبر في هذه المقالة عن امتنان عميق لعمل محدد لعبدالله حبيب، وهو القسم القصصي من كتابه "فراق بعده حتوف" الصادر عن دار الانتشار العربي، في إحدى عشرة قصة، يوقعها عبدالله حبيب بتواريخ تمتد من عام 1998 وحتى عام 2001 بين كالفورنيا وأوستن وأبوظبي، ليرصد لنا أشكالاً عديدة للموت حتى الرمزي منه، مستحضراً قريته في المكان الغريب الذي يعيش فيه، كما فعل عبدالرحمن منيف عندما كتب مدن الملح على نهر السين، فيستحيل هذا العالم كله، وجها واحداً، مغموراً في وحشته وسننه القاسية، ليس أدل على ذلك، من هبوط زوج وزوجه في إحدى الأيام الماطرة في أمريكا، متسلحين بمظلات وداخلين في الجموع التي تود لو ترى المطر، أن تقول الزوجة إنها كانت تستحم في الوديان عندما تدفع، وهو يرى في ذلك الماء الذي يسيل في مدينته الغريبة، خيط دم سال عن حادثة في سوق حيهم القديم.

تمتلئ قصص عبدالله حبيب بحاراتنا وبنا، حتى أولئك الذين غرقوا في بحرنا لهم نصيب في سرده، وللحصيرة التي تلف الموتى، والحصيرة التي يأمل المتحابون الجلوس عليها، هي حصيرتنا التي كبرنا عليها وما زلنا نفعل، يخيل لي أنني وعند قراءة هذه الكتابة لا أنظر لنفسي من الخارج، بل أنغمس في أرض البلاد وتربتها وناسها بعيون يقظة، لا تلوم نفسها في آخر الأمر من أنها وعلى طريقة شتراوس في كتابه "مداريات حزينة" قصرّت في النظر. إنها كذلك شريطٌ عن التباين إذا كان ثمة تباين بالطبع بين الماضي والحاضر، عما حدث لنا خلال هذه السنوات، وكيف تحولت قرانا ومدننا لتحتوي تلك الحيوات المعقدة لناسها.

ولتسمحوا لي أن أشارككم مقطعاً قصيراً من قصة حندول " أظنُّ أَنِّي أدري أَنَّ ما حَدَثَ لحندول المسكينِ قَدْ حَدَثَ، وَسَيَحْدُثُ، لغيرِه، مِنْ أَوَّلِ الخَلْقِ وحتَّى يَرِثَ اللهُ الأرضَ وما عليها، ولذلك فإنَّه ينبغي "التَّمَاسُكُ والتحلِّي بالصَّبْرِ وقبول القضاءِ والقدر، وانتظارُ العوضِ مِنَ اللهِ الوَهَّابِ الذي وَسِعَتْ قُدْرَتُهُ كُلَّ شيء"، كما قال أَهْلُ الحِكْمَةِ وَالوَقَارِ في القرية، وأدري أَنَّ عدداً من صيَّادي قريتِنا قد ماتوا في غَرْقَاتٍ متفاوتةِ الشَّبَهِ بِغَرْقَةِ حندول، حَيْثُ لا يَمُرُّ عَامٌ على قريتِنا دون أَنْ يَغْرَقَ صَيَّادٌ أو اثنان. ولكنِّي، وأنا أسيرُ صامتاً وجاهلاً وَسَطَ الحَشْدِ الـمُهلِّلِ، وَالمُكَبِّرِ، وَالمُحَوْقِلِ، وراءَ النَّعْشِ الملفوفِ بحصيرةٍ مُمَزَّقَةٍ لَفَّتْ محفوظة ولطيفة قَبْلَ سنواتٍ، كما طَوَتْ جثامينَ كُلِّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ قريتِنا، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، ابنة الصياد العريق، وسليمان الأعور، وغيرهم، كُنْتُ أتساءل: كيف يُمْكِنُ لحندول ذي العشرين سنةً، أو نحو ذلك، وَالجَسَدِ الأسمرِ السَّامِقِ، والابتسامةِ البخيلةِ، أَنْ يُصَدِّقَ أَنَّهُ مَيِّتٌ الآنَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ إلى البَحْرِ غداً، ولا بَعْدَ غَدٍ، وَلَنْ يلتقي عويشه على حصيرتِه اللَّيلة، وَلَنْ يراها أبداً؟ كيف يُمْكِنُ له أَنْ يُصَدِّقَ ذلك؟ كيف؟"