أحمد؟

19 ديسمبر 2023
19 ديسمبر 2023

يعيش صديقي الغزي خارج غزة، وينظر إليها الآن بعين مذنبة، ترى أنه لا حق لها في ترك الجميع يبادون هناك، والتاريخ البسيط أصلا الذي صنع مناخ الحياة الاجتماعية في غزة يُدمر بوحشية، ليس هذا فحسب صديقي يقول إنه بات يعرف ما الذي كان يعنيه والده عندما حدثت إحدى الحروب الماضية ولم يكن بجانب عائلته في غزة، كان والده قلقا بصورة متطرفة؛ لأن الوجود مع العائلة ورؤيتهم يجعلك في حالة من الاطمئنان أن مصيركم مشترك. بالأمس وقعت مجزرة مروعة في وسط مدينة رفح، جنوب القطاع، كانت الرسائل تصل إلينا طوال الوقت، تبين أن صديقتنا فقدت خالاتها وكل عائلتيهما، وأن أم رزان وقعت في غيبوبة وقت تلقيها الخبر. كان القصف قد طال أكثر من بيت وأباد أكثر من عائلة، وبسبب مساحة غزة الصغيرة، توقع هذا الصديق أن أحد البيوت المستهدفة هو بيت أقرب أصحابه. لم يبعث له سوى رسالة واحدة: أحمد.

ناداه باسمه فحسب، ليرد أحمد بعدها بساعات: (مش احنا). إن إيجاز هذه المحادثة، واللغة المختزنة داخل هذا (اللا تعبير) يحدثان وقعا بلاغيا هائلا، ويقدمان صورة مكبرة عن الواقع ــ مع انزعاجي في اعتبار كل هذا صورا ورموزا ــ إذ أن هذا الحدث ليس إلا صورة نفسه في الواقع، وهو كافٍ دون الحاجة لاختزاله لمعناه المجرد، في محاولة أخيرة مني للإيمان بالدم والأشلاء والعظام في عالم لا يرى فيها شيئا سوى ما تحيل إليه.

أنا شخصيا وطوال هذه الحرب أمارس بامتيازاتي التي أحظى بها تخوفا من اللغة التي نستخدمها، وأحاول النظر فيها على طريقة رولان بارت في «أسطوريات الحياة اليومية»، أتأمل الحديث بابتذال عن «العادية» التي سينتهي إليها مصير مشاهد المجازر اليومية من غزة، الجميع يقول إن ما صار يحدث بعد سبعين يوما بات حدثا عاديا بالنسبة للعالم، لذلك انحسر اهتمام الناس به، ولا أعرف لمّ هذه الخصومة مع العادية، ولما افتراض أنها بالضرورة ستنتج موقفا سلبيا. ربما علينا أن نعيد أيضا النظر في تعبير «عادي» الذي يقابله «الخارق» ربما، هذه الثنائية المبسطة والتي لا تستطيع فعلا أن تقول لنا الكثير حول طبيعة ما يحدث واختزانه للكارثة.

في المقابل تخرج لنا توصية أخرى على شاشات هواتفنا: لا تعتد المشهد، لا تعتد مشاهدة الدماء. ولعل ما ينطوي على هذه الدعوات هو ما ناقشته سوزان سونتاغ باستفاضة في كتابها «الالتفات إلى ألم الآخرين» إذ تصبح كل هذه الصورة التي تتدفق علينا طوال الوقت من قلب الحرب تجعل الصدمة أمرا قابلا للاستهلاك ومصدرا للقيمة التي يحظى بها موضوع الصورة الملتقطة في الحرب. ولعل هذا الجانب المتعلق بالصور، يرتبطُ من وجهة نظري بالفكرة الأولى التي طرحتها حول ابتذال العادية. إن ما نطالب به دوما وبدون وعي، هو المزيد من الصدمة وبالتالي المزيد من الهزات التي نتعرض لنا كمتابعين يقولون إنهم يتضامنون مع الفلسطينيين.

لقد أنتجت هذه الفكرة المروعة وارتكاساتها انتهاكات جسيمة لأجساد الشهداء وخصوصيتهم وخصوصية عائلاتهم، دُفع الكثيرون في غزة لكي يصوروا للعالم كل شيء، حتى مشهد القطة وهي تتناول جثة شهيد، إن ما يختبرونه كارثي، وهم يريدون من العالم أن يرى هذا بأم عينيه وأن يصدق أو على الأقل أن يشكك في سردية دولة الاحتلال الإسرائيلية، يطلبون من العالم أن ينتفض، ويعرفون أن الصورة هي الوسيط الأمثل لتحقيق ذلك. لكن لم هي كذلك؟ ولم لا ينطبق هذا على الجانب الآخر، فالإسرائيليون لم يقدمون لنا صورا عما يدعون أن المقاومة ارتكبته في حق «المدنيين» في السابع من أكتوبر. إن الصورة إذن ليست أكثر من روتين صغير لن يحدث شيئا عدا شعورنا بحاجتنا المستمرة لكي ننفعل، حتى نظن أننا فعلنا شيئا ذا بال، لكننا في الحقيقة لم نفعل.

بعد سبعين يوما سقط أصدقائي في غزة ممن يعيشون في الخارج في حالة من الكآبة الشديدة، لأنهم استنفدوا كل طاقاتهم في مقاومة هذا الألم طوال الفترة الماضية، ومع ذلك فهم يشاهدون الأخبار، يبعثون رسائل موجزة، يحاولون الاتصال بعائلاتهم هناك في الأوقات القليلة جدا التي تعود فيها الاتصالات، يتحدثون عن بسالة المقاومة، يشاهدون المقاطع التي ترسلها المقاومة بالحماسة الأولى نفسها رغم خساراتهم الجسيمة.

وبعيدا عن كل هذا من يستطيع أساسا أن يعتاد كل هذا الجنون وكل هذه الكوارث إذا ما نظرنا للاعتياد كمعنى ينتج موقفا سلبيا بالضرورة؟ أي عطب بنا؟ وأي نظام عالمي هذا الذي أنتج إراداتنا هذه، واستجاباتنا هذه، وأي سياسة تغلغلت ببطء لتصبح أفعالنا هي هذه، التي تكتفي «بعدم الاعتياد» على قتل وتشريد آلاف الناس؟