آمالُ حالِم

24 يناير 2024
24 يناير 2024

تطالعنا الحياة الموحدة التي يعيشها البشر اليوم بأخبار وأحداث تقضّ مضجع الآمن، وتزيد اليائس يأسا؛ فمن إبادة على مرأى ومسمع من الجميع بحق غزة وفلسطين عامة، إلى قصف اليمنيين وأحداث السودان المريرة ومصائب العالم المنصبة، أو بالأحرى المصبوبة صبا على الشرق الأوسط وأهله وبلدانه. فما الحد الأخلاقي لهذا كله؟ وهل له وجود أصلا؟ تساؤلات كثيرة تعصف بالمرء وهو يقارع الحياة بصدر عار من الدروع ووجه لفحته شمس الصحراء والقوت اليومي.

لا أدّعي في هذه المقالة بأنني صاحب المصباح السحري الذي يفض المشكلات أو يجلب السعادة والرخاء المثاليين للحالم السعيد، لكن أولى خطوات الفهم؛ التساؤل والسؤال، ثم يأتي من يملك القدرة والمعرفة من علماء ومفكرين وأدباء وحالمين حتى! فكما أن سدا هائلا يمكن أن تثقبه فأرة فيخر ساقطا، فقد يكون الحل بيد من لا يتوقع منه الحل.

أتذكر في المرحلة الابتدائية من الدراسة، أن مثلت مدرستي في أحد المحافل على مستوى محافظة الداخلية حينها، وكانت الخطة أن نقدم كطلاب صغار رؤانا ومقترحاتنا للشرطة في كيفية إلزام السائقين بالنظام بهدف التقليل من الحوادث والانتباه في الطريق. وكانت الحلول حينها خيالية أفلاطونية. فمن يصدق أنه في بداية الألفية حين كانت قمة التطور والرقي عند الناس استعمال جهاز «البليب»!. وهو جهاز صغير أصغر من حجم الكف، يرسل إشارة إلى صاحب جهاز آخر مثله بأنه يود الحديث إليه، فيتجه المرسل والمستقبل إلى هاتف ثابت كل في مكانه، فيقومان بالتحدث إلى بعضهما عبر الهاتف الثابت. من كان يتخيل حينها أن يتطور الأمر إلى جهاز بحجم الكف يحوي العالم بأسره، وإلى رادار يلتقط صورة السائق إن هو استعمل الهاتف اليدوي أو أهمل لبس حزام الأمان!. وأتذكر حينها أن اقتراحاتنا حينها تم أخذها بعين الرجل الكبير الناظر إلى طفل صغير لا يدرك ما يقول، رغم أن التاريخ كله يشهد أن الطفرات التي حصلت فيه، ما هي إلا نتاج لخيال الحالمين وعملهم. فمن الخيميائي نيوتن، حتى الحالم بحرية فلسطين التونسي محمد الزواري مهندس طائرات حماس المسيّرة؛ يحقق الحالمون المؤمنون بالمُثل العليا أحلامهم ويشيدونها على أرض خصبة للحرية وأساس متين.

من حقنا أن نحلم بغد جديد، ونعمل على تحقيقه واقعا. فاليائس مهيض الجناح مأكول لا محالة، والمتفائل المثابر في عمله يحقق آماله وآمال أمته ووطنه ولو بعد حين. ونجد أمر اليأس والتفاؤل، والخوف والجزع والفُرجة والفَرج حاضرين في القديم والحديث، وهاك خبرا من كتاب «محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء» لأبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضَّل المعروب بـ «الراغب الأصفهاني» في المجلد الرابع من موسوعته «قال أبو عمرو بن العلاء: خرجت هاربا من الحَجَّاج إلى مكة، فَبينما أَنا أَطُوف إِذ سمعت أَعْرَابِيا يقول لآخر: مات الحَجَّاج، فأنشده الآخر:

ربّما تجزَعُ النُّفُوس من الْأَمر

لَهُ فَرجَةٌ كحلِّ العِقال

فلم أدرِ بأي القولين أفرح؛ أبموت الحَجَّاج، أم بقوله فَرجَة بفتح الفاء». وفي تهذيب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ج2 « والفَرْجة بفتح الفاء: التفصِّي من الهمّ. فأمّا الفُرْجة بالضّم، ففُرْجة الحائط وما أشبَهَه». وأبو عمرو بن العلاء هذا، أحد أعلام العربية الكبار وكان متصرفا في علوم كثيرة مقدما فيها، كان عالما باللغة وأحد القرَّاء السبعة وأحد مفسري القرآن الكريم، وعنه أخذ كثير من نوابغ العربية وأئمتها علومهم.

وبعد أن أرسى صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- حجر الأساس لمجمع عُمان الثقافي قبل أيام، فإننا نحلم بأن يكون هذا المجمع -خصوصا ما يتعلق بالمكتبة- مكانا يحتضن المبدعين الحالمين الشغوفين بالكتب والمكتبات خصوصا؛ فالمكتبة حية بحياة وحب من يعمل فيها، ومتى كان موظف المكتبة شخصا لا يعرف منها سوى رقم تتبع الكتاب الفلاني ويراقب الداخل والخارج منها، ماتت المكتبة وفقدت بريقها وحياتها. فهل سيعمل في المكتبة شغوف بها يكون بورخيس العماني؟ لم لا!.

ربما تكون خاتمة هذه المقالة غير اعتيادية بتاتا، ولكنني أؤمن بأن الطفولة أساس الغد تفكيرا وحياة ومصيرا؛ ولأنها كذلك، أختتم بكلمات شارة الرسوم المتحركة التي كنا نتابعها في طفولتنا، وأرجو أن نتدبر كلماتها جيدا، فمثل هذه الكلمات هي ما يبني جيلا معتمدا على ساعديه في بناء حياته ووطنه، وهي كلمات شارة الرسوم المتحركة «سابق ولاحق» (آن الأوان الآن سنثبت أننا، الأمهر في السباق بعزمنا، الصعب هان، والفوز منا قد دنا بالإصرار حققنا المنى.. بالعمل حلمنا سار معنا ووصل، وفي النهاية الصعب هان.. هيا، سابق لا تتردد لاحق الفوز مؤكد، لا لن يهزم أبدا من سعى بإصرار، سابق لا تتردد لاحق الفوز مؤكد، لا لن يهزم أبدا من سعى نحو الانتصار). كما أؤمن أن هذا الظلم الرازح من قوى الاستعمار الناعم على صدر الشرق الأوسط وإفريقيا زائل لا محالة، فكلما بلغ الأمر ذروته وجبروته، فلا بد من سقوط مدوٍّ، وإن بدا أنه أفول بطيء.