إسبانيا .. بين دروس السياحة والتاريخ !!
أ.د. حسني نصر -
تبدو مملكة إسبانيا للناظر من بعيد من الدول الأوروبية البعيدة عن الأضواء، إذ لا تقارن على صعيد الأدوار السياسية العالمية بالمملكة المتحدة وفرنسا اللتين تقودان الاتحاد الأوروبي وتتمتعان بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، كما لا يمكن أن تقارن من ناحيتي النفوذ والاقتصاد بألمانيا المتنوعة الموارد والتي تعمل كضابط لإيقاع الاتحاد الأوروبي، ولولا تفوقها الرياضي في كرة القدم تحديدا، وامتلاكها لأشهر ناديين رياضيين في العالم، وهما ريال مدريد وبرشلونة، لما سمع الكثيرون خاصة في عالمنا العربي عن هذه الدولة التي تقع في أقصى الجنوب الأوروبي الغربي ولا يفصلها عنا سوى مضيق صغير هو جبل طارق، والتي كان للعرب فيها أيام وقرون مجيدة.
قبل أيام قليلة أنهيت زيارتي الأولي لإسبانيا التي بدأت بالعاصمة مدريد وانتهت بإقليم الأندلس وتحديدا مدينة غرناطة الجميلة. بين مدريد وغرناطة كنت أبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة شغلت ذهني قبل بدء الرحلة، مثل ما الذي جعل دولة مثل إسبانيا خضعت أجزاءً كبيرة منها لقرون للحكم العربي تنطلق لتكون دولة استعمارية كبيرة لها ممتلكات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ثم عانت في القرن العشرين من الحروب الأهلية والصراعات السياسية وجربت الحكم الديكتاتوري، ما الذي جعلها تتحول إلى دولة ديمقراطية متقدمة ذات ملكية دستورية، يحتل اقتصادها المركز الثاني عشر عالميا والخامس أوروبيا ويتمتع مواطنوها بمستوى عال من الرفاهية جعلها تحتل المركز التاسع عشر عالميا في مقياس جودة الحياة للعام 2017 الذي تنشره سنويا صحيفة «يو اس ايه نيوز اند ورلد روبرت». ورغم أن المقارنة تبدو ظالمة ببعض الدول العربية الكبيرة التي تتفوق في مساحتها وعدد سكانها ومواردها الطبيعية وتراثها الحضاري على إسبانيا إلا أنها – أي هذه المقارنة-ظلت حاضرة في ذهني طوال الرحلة التي استمرت أسبوعا، خاصة واني أرى أفواج السياح المتدفقة على مدريد، والتي بلغت في عام 2016 نحو 75 مليون سائح، وهو ما يجعل منها وفقا لتصريحات لوزير السياحة الإسباني نشرتها سكاي نيوز العربية، ثالث أكبر مقصد سياحي في العالم بعد فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وتدر السياحة على إسبانيا نحو 77 مليار دولار سنويا وتسهم بنحو 11% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
الإجابة عن السؤال تبدو صعبة إلا أنها يمكن إيجازها في ثلاثة محاور أساسية جعلت إسبانيا قبلة للسياحة العالمية، وهي الاستقرار السياسي والأمني إلى جانب ثراء التراث الحضاري، خاصة العربي منه، وثقافة الشعب السياحية. فرغم كل ما يتردد عن الحركات الانفصالية التي تسعي للانفصال عن المملكة سوء في إقليم كتالونيا او إقليم الباسك فإن تأثير ذلك على المناخ السياسي العام يبدو محدودا ويتركز في الأقاليم التي يسعى الانفصاليون فيها إلى الخروج من حكم مدريد.
فبعد رحلة من الاضطرابات السياسية امتدت لعقود طويلة خلال القرن الماضي وشهدت حربا أهلية راح ضحيتها أكثر من مليون شخص بين قتيل ومشرد، وحكما ديكتاتوريا طويلا، وجدت إسبانيا الخلاص بعد وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو في عام 1975 فنصبت خوان كارلوس ملكا، وتوافقت على دستور جديد صدر في عام 1978 انتقلت بموجبه إلى صفوف النظم الديمقراطية، وهو ما مكنها من الانضمام لحلف الأطلنطي ومن ثم إلى السوق الأوروبية المشتركة التي تحولت بعد ذلك إلى الاتحاد الأوروبي. ورغم تعرض إسبانيا لعمليات إرهابية تمثلت في تفجيرات قطارات الأنفاق في الحادي عشر من مارس 2004 أودت بحياة نحو مائتي شخص، إلا أن الحكومة الإسبانية والي جانب جهودها في توفير الأمن ومحاربة الإرهاب، لا تتحدث كثيرا عن ذلك، لأنها تعلم أن من شأن ذلك التأثير سلبا في الحركة السياحية. وتتواجد سيارات الشرطة بشكل دائم في المزارات السياحية دون أن تتدخل في حركة السياح من قريب أو بعيد، حتى أنها لا تطارد المتسولين في الميادين العامة الذين يلتزمون بمبدأ أخلاقي يقوم على طلب المساعدة منك بأساليب فلكلورية مبتكرة دون أن يقتربوا منك كثيرا، ثم الانسحاب من أمامك فور أن تقول له لا. وفي الساحات العامة الشهيرة تقف فرق من الهواة تقدم عروضا موسيقية ورقصات الفلامنكو الشعبية واضعة قبعة يضع فيها الناس عطاياهم القليلة دون أن تتدخل الشرطة في الأمر.
الجميل في الأمر أن السياحة في إسبانيا تحولت إلى ثقافة شعب يعلم جيدا أن ابتسامته في وجه السائح هي الضامن الرئيس لازدهار بلاده، وعندما سألت بعض الأصدقاء عن ذلك نصحوني بمراقبة وجوه الإسبان في كل مكان، فهم مبتسمون دائما ومهندمون وتبدو علامات السعادة الدائمة عليهم رغم انهم ليسوا أغنى شعوب أوروبا.
عندما وصلت إلى مدينة غرناطة وتجولت في شوارعها القديمة، ومنطقة البيسين التي يتواجد فيها قصر الحمراء مقر الحكم العربي في الأندلس لسنوات طويلة، هالني كم التراث الحضاري الذي تركه العرب في هذا المكان من العالم. ومع الشعور بالفخر كوني عربيا، خالجني شعور أكثر بالندم وأنا استرجع عبر سماعات أذن مثبتة في الأتوبيس السياحي المكشوف مع المرشد السياحي الإسباني تاريخ المكان والإنسان في الأندلس، خاصة وهو يصف العرب الذين فتحوا الأندلس بأنهم «البرابرة العرب». ومع ذلك فإن علينا أن نشكرهم كثيرا على حفاظهم على هذا الإرث الحضاري كما هو تقريبا ودون أن تعبث به يد. مساجد تحولت إلى كنائس وكاتدرائيات كبيرة، وبيوت أمراء وحكام وأسر عربية شهيرة ومدارس ظلت قائمة حتى الآن بحجارتها وأبوابها الخشبية الكبيرة، وتعلوها خطوط عربية جميلة ملونة بالأزرق تحمل عبارة «لا غالب إلا الله» تؤكد أننا كنا هنا وكانت لنا دولة هنا يوما ما، سقطت بسبب صراعات داخلية في المقام الأول كما يؤكد تاريخ الأندلس، ثم تقدموا هم وتأخرنا نحن.
ان زيارة إسبانيا والأندلس تحديدا تفتح أمام العقل أفقا واسعا للتفكر في التاريخ العربي وإعادة قراءته من جديد. لقد كانت إسبانيا قبل دخول العرب في القرن الثامن الميلادي تعيش عصور الظلام وكانت مفتتة بين ممالك كثيرة، وعندما فتحها العرب أضاؤوا ليلها وجعلوا من الأندلس قبلة للعالم ونقلوا لها العلم والحضارة والدين الإسلامي، ثم ما لبث العرب أن اختلفوا ودخلوا في صراعات بين بعضهم البعض فيما عرف بحقبة ملوك الطوائف، وهو ما مكن الممالك المسيحية الصغيرة من بدء معركة طويلة لطرد العرب من إسبانيا. دروس السياحة والتاريخ من الأندلس كثيرة ونافعة خاصة ونحن نعيش هذه الأيام حقبة من حقب الخلافات الشديدة في عالمنا العربي.
