روضة الصائم

الكبر داء وبيل شدد فيه الإسلام لأنه ســبب خســارة الدنيا والآخــرة

07 يونيو 2018
07 يونيو 2018

د.أحمد بن جابر المسكري -

أحييكم أيها القراء الكرام من جديد في هذه السلسلة، ولا نزال مع قصة سيدنا لقمان عليه السلام ووصاياه لابنه، وقد وصلنا إلى تعريف الصبر وهو: حَبْسُ النفس على ما تكره، وهو مطلوب لكل خير في الدنيا والآخرة، فلا يتم أمر دنيوي ولا أخرويّ إلا بالصبر.

وسرّ أمره بالصبر على المصائب هنا: لما يترتّب على تلك الأوامر من شدائد ومحن، فإقامة الصلاة شديد، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين، وكذلك مضارّة الناس لمن يأمرهم بالخير وينهاهم عن المنكر وعداوتهم له شديدة.

وفي قوله عزّ وجلّ: «إنَّ ذلك من عَزم الأمُور» أسرار بيانيّة، فمن ذلك: 1- (إنّ) تعليلية، فأفادت الجملة تعليل الأوامر السابقة.

2- (ذلك): اسم إشارة دالّ على البعد، 1- قيل: يعود على الصّبر، لِعُلُوِّ شأن الصّبر، 2- وقيل: يعود على الأوامر السّابقة جميعا، لعلوّ شأن إقامة الصّلاة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والصّبر.

3- (عَزْم): مصدر بمعنى اسم المفعول، وهذا من إضافة النّعت إلى المنعوت أي: الأمور المعزومة.

واختلف في تأويله: 1- المقصود هو الأمور المعزوم عليها من الله تأكيدا، أو المقطوع بها من الله إيجابا، 2- المقصود هو الصّبر، لأنّه عقد القلب على إمضاء الأمر، أو حبس النفس في الأمر، لأنّ العقد القلبيّ ما لم ينحلّ ثبت الإنسان على الأمر الذي عقد عليه.

وفي قوله عزّ وجلّ: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)» أسرار بيانيّة، فمن ذلك: (صَعَّرَ خدّه) أي: أمال عنقه إلى جانب ليُعرض عن جانب آخر، وهو مشتقّ من الصَّعَر، وهو داء يصيب البعير فيلوي منه عنقه، وهو تمثيل للاحتقار لأنّ مصاعرة الخدّ هيئة المحتقر المستخف بغيره.

وإعراب (ولا تمش في الأرض مرحا): لا: ناهية، تمشِ: مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة.

مرحاً: صفة لمفعول مطلق، أي: مشيا مرحا، ويجوز أن يعرب حالا، أي: ذا مَرَح، أو مَرِحًا.

والمَرَح هو: شدّة الفرح والازدهاء، ويظهر ذلك في المشي تبخترا واختيالا.

وفي قوله: (إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور): (إنّ) تعليليّة، فأفادت الجملة تعليل النّهي عن ذينك المظهرين من مظاهر المتكبّرين.

و(لا يحبّ) أي: لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين، وعدم رضاه مؤذن بالعقوبة الدنيويّة والأخرويّة.

و(مختال): اسم فاعل من اختال، والاختيال هو ما يظهر على المتكبّر من حركات.

و(فخور): شديد الفَخْر، والفَخْر هو ما يظهر على المتكبّر من كلمات.

وهكذا تعلم أخي القارئ الكريم أنّ الكبر داء وبيل شدد فيه الإسلام، لأنه سبب خسارة الدنيا والآخرة، فالمتكبر بغيض عند الخلق، بغيض عند الخالق، نسي أنه كان نطفة مذرة، ثم يصير جيفة قذرة، وبينهما يحمل المذرة، فكيف يتكبر من كان ذلك شأنه، كيف يتكبر من خلق من تراب وإليه يرجع، ولو حاز ما حاز من أسباب العظمة في هذه الدنيا فإنه لا محالة يرجع إلى الله الذي لا يحب المستكبرين.

ومن المعلوم أن الكبر يمنع الإنسان من الخير، لأنه يرى نفسه أعظم من الآخرين.

* ثمّ يقول المولى الكريم سبحانه وتعالى: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)».(القَصْد): الوَسَط بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف الإسراع الدالّ على الخفّة، وبين طرف الدّبيب الدالّ على ضعف الهمّة.

و(الغضّ): خفض قوّة استعمال الشّيء.

فغضّ الصّوت: جعله دون الجهر.

وقوله: (إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير): تعليل علّل به الأمر بالغضّ من صوته، أي: لأنّ صوت الحمير أنكر الأصوات، أي: أصعب الأصوات على القلوب والأسماع، ورفع الصّوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظّ من النّكارة.

وتلحظون أنه جمع (الحمير) في نظم القرآن مع أنّ (صوت) مفرد، فلم يقل الحمار، لأنّ كلمة الحمير أنسب بالفواصل المتقدّمة من قوله: (ولقد آتينا لقمان الحكمة)، وهي: حميد، عظيم، المصير، خبير، الأمور، فخور، الحمير، وفواصل القرآن تعتمد كثيرا على الحركات والمدود والصيغ.

نُهِيَ عن المبالغة في الجهر إلا لغرض صحيح، ومنه الأذان والإنذار من العدوّ.