العصر الرقمي وعقول المستقبل
إميل أمين/ كاتب مصري -
يوما تلو الآخر يكتشف إنسان القرن الحادي والعشرين أنه صار مرتبطا بفكرة العصر الرقمي أكثر من أي ارتباط آخر، ومع زيادة الحاجة والاعتماد على الآليات الرقمية تتصاعد تساؤلات من قبيل كيف يغير العصر الرقمي عقولنا، ولماذا نكترث، وما الذي في وسعنا أن نفعله في مواجهته، ثم وربما الأهم هل هو خير مطلق أم شر غير محدود؟
الجواب في واقع الأمر نجده طي صفحات كتاب «عقول المستقبل» للمفكر والفيلسوف الأمريكي، ريتشارد واطسون، والصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر، ومن ترجمة الأستاذ عبد الحميد محمد دابوه.
يمكن أن نتساءل أول الأمر عن مدى دقة القول بأننا نعيش العصر الرقمي، وهل القول يطابق الواقع أم أن هناك تزيدا ما في الحديث؟ المؤكد وبحسب المؤلف أن أجهزة الهاتف المحمول وأجهزة الحاسب الآلي وغيرها من ذات النوع، قد أصبحت ملمحا وملمسا رئيسيا من ملامح الحياة اليومية للملايين في المنازل والمكاتب والمدارس في جميع أرجاء العالم.
والمؤكد أنه يوما تلو الآخر يُضحي الاعتماد على الشبكة المعلوماتية العنكبوتية أمرا أساسيا ضمن مرتكزات الحياة المعاصرة، وسواء رأينا في ذلك توجها إيجابيا، أو اختصاما سلبيا من قيم الحياة ومدى التأثير على نوعية تلك الحياة، ولم يعد أحد قادرا بدرجة أو بأخرى على الاستغناء عن الإنترنت، بل اليوم الذي ستبطل فيه فاعلية هذه الشبكة، سيعود الإنسان حكما خمسمائة عام على الأقل إلى الوراء.
هل يعني ذلك أن عقولنا باتت مرتبطة ارتباطا جذريا وثيقا بالأدوات الرقمية، وربما عما قريب تصبح تابعة لها، وهنا يحدث ما يخشاه الجميع من تحول العقل البشري إلى روبوت يسير وفقا لما تدفعه في اتجاهه الذكاءات الاصطناعية؟
يخبرنا واطسن عبر صفحات كتابه الشيق أننا بتنا نتواصل وبشكل متزايد من خلال الرسائل النصية والبريد الإلكتروني أكثر بكثير من التواصل المباشر وجها لوجه، فلدينا مئات الأصدقاء على الإنترنت، ومع ذلك قد لا نعرف الجيران الذين يسكنون بجوارنا، فضلا عن أن أول مكان نبحث فيه عن المعلومات هو محرك البحث جوجل. يترتب على كل هذا الانتشار التكنولوجي الواسع، والطوفان الإلكتروني الغامر حدوث تحولات جوهرية في المواقف والسلوك، وهذا ما يرمي هذا الكتاب لاستكشافه، ذلك أنه يناقش كيفية تغير الحقبة الرقمية عقولنا، ويرصد ما يحدث الآن، ويتناول ما قد يأتي في المستقبل.
علمتنا الفلسفة أن التساؤلات أهم كثيرا جدا من الإجابات، فالأخيرة تضعنا في سياق محدد وربما محصور في أفكار تقليدية اتباعية تاريخية، بينما الأسئلة تطرح آفاقا واسعة للبحث والتنقيب في جذور القضايا وعلل الأشياء.
في هذا الإطار الفكري يضعنا المؤلف أمام استحقاقات أسئلة عميقة، منها على سبيل المثال، هل يمكن لشيء يبدو بريئا مثل الهاتف الجوال، أو محرك بحث جوجل أن يغير بالفعل الطريقة التي يتصرف بها الناس والطريقة التي يفكرون بها؟ هذا سؤال مهم جدا، وهو أيضا سؤال يشغل عقول عدد من العلماء البارزين، خاصة أولئك الذين يدرسون سيكولوجية العقل، ومرد الأهمية هنا هو أن العصر الرقمي قد يغير عقولنا بالفعل.
إلى أي مدى يمكن أن تكون رؤية صاحب الكتاب سديدة؟
دعونا نلقي نظرة على مشهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة 2020، فهناك سنجد أن المعركة الانتخابية الحقيقية، إنما كانت تدور عبر صراع العقول الإلكترونية، ومن خلال أدوات ووسائل التواصل الاجتماعي، تلك التي باتت تخترق العقول والقلوب، وتحدد اتجاهات الرياح.
لقد جرت المنافسة وما تلاها من خلال أدوات قياس رقمية، من استطلاعات رأي، وترويج للمرشحين عبر الشاشات الرقمية، بأكثر كثيرا جدا من الأدوات التقليدية كالتلفزة والإذاعة، الأمر الذي أكد نظرية أحد رواد علم الأعصاب، البروفيسور «مايكل ميرزنيتش «، والذي أثبت من خلال تجاربه أن مخ الإنسان طيع، إذ يستجيب لأي مثير أو خبرة جديدة، ولهذا يحاط تفكيرنا بإطار من الأدوات التي نختار منها ما نستخدمه.
ولأن لا شيء يتمتع بالمطلق على الأرض، لهذا فإن مسألة العصر الرقمي ليست قيمة مضافة بشكل جامع مانع، فهي كما توفر أدوات عديدة للتقدم الإنساني، تختصم كذلك منه.. هل من أمثلة على ذلك؟
الشاهد أن الحقبة الرقمية تعمل على تقليص قدرتنا على التركيز، وتؤثر سلبا على أسلوب تفكيرنا فنعاني بالتالي عند اتخاذ قراراتنا، فالأجهزة الرقمية تحولنا إلى مجتمع من الأذهان المشتتة، إذا كان من الممكن استدعاء أي معلومة بالنقر على الماوس، فلماذا نحفل بتعلم شيء جديد؟
إننا في سبيلنا لأن نصبح مهوسين بجوجل، تسير بنا الأيام من دون تفكير بعمق فيما نفعله فعلا أو إلى أين نحن ذاهبون حقا.
ولعل مجال المقاربة ما بين فعل القراءة في زمن الكتاب الورقي، والفعل عينه عبر الشاشات المضيئة يفتح لنا أبوابا واسعة للتفكر والتدبر.
القراءة من شاشة الحاسب سريعة وتناسب من يتطلعون للحصول على الحقائق، وفي مقابل ذلك القراءة من الورق تبعث على التأمل والتفكر وهي تلائم على نحو أفضل محاولة فهم القضية أو المفهوم بشكل شامل.
تبدو قصة الثورة الرقمية أكثر عمقا من مجرد حاسب أو هاتف ذكي، أنها قصة الثورة المعرفية التي ستحل محل العضلات البشرية، فالعقل البشري أصبح أداة أولية للإنتاج الاقتصادي، أي أن رأس المال الفكري، منتج العقول البشرية، اصبح هو الأهم الآن إلى أقصى حد، خاصة ونحن على أعتاب ثورة أخرى أيضا.
في المستقبل ستتنافس عقولنا البشرية مع الآلات الذكية في الوظائف، وفي العاطفة كذلك، إذ تصبح الآلات بارعة في مضاهاة المخزون المعرفي بأنماط السلوك البشري، لهذا فإننا ننتقل من عالم يتقاضى فيه الناس المال بقدر تراكم وتوزيع المعلومات الثابتة، إلى اقتصاد الابتكار السائل، حيث يُكافأ الناس لأنهم مفكرون ولأنهم مبتكرون لمفاهيم.
ولعل من سلبيات العصر الرقمي كذلك أنه وفي الوقت الذي نستفيد فيه من توافر المعلومات في كل مكان ومن احتمالات التواصل على نطاق واسع، فإن عملية المقاطعة الرقمية المستمرة والمعلومات التي تزيد عن الحاجة، تفتت وربما تشتت انتباهنا وتعوق تركيزنا.
إننا نجد أنه من الصعوبة بمكان أن نظل في حالة تركيز، بل الأدهى من ذلك أننا في سبيلنا لأن ندمن الشاشة، ولهذا فإننا في حاجة إلى أن نتخلى عن فكرة أن كل المعلومات مفيدة ويمكن تعديلها ومواءمتها لواقع جديد، حيث الانتباه قوة والثقة في المعلومات هي الأمر الحاسم.
إلى أين يمضي بنا العصر الرقمي؟
علامة استفهام متغيرة في زمن متحرك.
