زاوية لغوية: المسألة الثانية: الفرق بين علم الجنس واسم الجنس
يقدمها :د.إسماعيل العوفي -
وقع الخلاف بين النحاة في علم الجنس واسم الجنس على رأيين:
الأول: لا يوجد فرق بين علم الجنس واسم الجنس، وهو الذي يدل عليه ظاهر كلام ابن مالك في شرح التسهيل، فقد ذكر أن اسم الجنس شائع غير مخصوص، وعلم الجنس -من حيث المعنى- شائع غير مخصوص، والذي يدل عليه كلام ابن عقيل (ت:769هـ) أن رأيه موافق لرأي ابن مالك في شرح التسهيل، فقد ذكر أن حكم علم الجنس في المعنى كحكم النكرة من جهة أنه لا يخص واحدا بعينه، وقد صرح بوجود هذا الرأي المرادي (ت:749هـ)، والسيوطي (ت:911هـ)، وذكر المرادي أن إطلاق معرفة على علم الجنس مجاز عند أصحاب هذا الرأي، وهذا الرأي لا يخلو من نظر من وجهين:
1. العرب لا تضع اسمين لشيء واحد عادة، وإلا كان الأمر عبثا، فقد ثبت أنها وضعت كل شيء لمعنى، وقام وضعه على سبب.
2. الأحكام اللفظية لعلم الجنس تدل على اختلاف علم الجنس عن اسم الجنس، فمعاملته معاملة المعرفة في منعه من الصرف مع علة أخرى، وعدم دخول (أل) عليه، ووصفه بالمعرفة، وجواز إتيان الحال منه يدل على أنه شيء يختلف عن اسم الجنس.
الثاني: هناك فرق بين علم الجنس واسم الجنس، وهو الصواب للوجهين المانعين من اتحادهما معنى، وقد تقدم ذكرهما، ولكن هناك سؤالان لابد من الإجابة عنهما، والجواب عنهما ليس سهلا، فمحاولة الجواب عنهما دعتني إلى الوقوف مع علم الجنس واسم الجنس شهرا أو يزيد، وتقليب كثير من المراجع والمصادر بحثا عن جواب السؤالين، وهما:
1. ما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس؟
2. ما الحاجة التي دعت العرب إلى وضع علم الجنس؟
وأبدأ بالجواب عن السؤال الأول، فقد اشتهر عند النحاة، وتابعهم على ذلك الأصوليون أن علم الجنس موضوع للماهية باعتبار حضورها أي: تشخيصها في الذهن، واسم الجنس للماهية بلا قيد أصلا من حضور أو غيره، وقرب الخضري (ت:1345هـ) هذا المعنى إلى الأذهان فقال: «وإن شئت فقل علم الجنس للماهية بقيد الحضور لا بقيد الصدق على كثيرين واسمه بالعكس».
وهذا الكلام مشكل، ولا أراه يروي الغليل، لأنهم ينصون عند ذكر الحضور في اسم الجنس على أن الحضور في الذهن حاصل، وإن لم يكن شرطا في اسم الجنس، أو لم يكن مقصودا، لكنه يلزم الحضور الذهني؛ لتعذر الوضع للمجهول، ولكنه لم يقصد كعلم الجنس؛ وعليه فقد وصلنا إلى نفس النتيجة، فالحضور الذهني حاصل في علم الجنس، واسم الجنس بصرف النظر عن قصده، أو عدم قصده فأين الفرق؟!
ولكن هناك رأي آخر تشير إليه جمل (الكتاب)، بل يشير إليه إفراد الكتاب عنوانا لهذه المسألة، وتخصيصها بالذكر؛ فذلك يدل أن علم الجنس شيء غير اسم الجنس أو النكرة، ويمكن التقديم لهذا الفرق بذكر كلمة (الرجل) فهذه الكلمة محتملة أمرين، وهما: إرادة الجنس أي: شمولها لكل رجل، وإرادة شخص بعينه له صفات معينة فلما قلنا (محمد) ارتفع المعنى الأول، وخلصت الكلمة للمعنى الثاني، ومثلها كلمة (الأسد) فإنها محتملة الجنس أي: كل أسد، ومحتملة كمال الأسدية وملاحظة صفاته، أو شيء منها، فلما أرادت العرب تخصيص المعنى الثاني باسم، ورفع الاحتمال قالت: أسامة في الأسد، ويدل على ذلك أن علم الجنس وقع على أشياء تراها العرب في صحرائها، وتذكر صفاتها وأخبارها، فالمقصود بعلم الجنس حقيقة صاحب العلم، ولحظ صفاته، أو شيء منها، وليس دلالته على شائع في جنسه، وهذا المعنى لمحه سيبويه فقال: «ومعناه إذا قلت: هذا أبو الحارث أو هذا ثُعالة أنك تريد هذا الأسد وهذا الثعلب؛ وليس معناه كمعنى زيد وإن كانا معرفة، وكان خبرهما نصبا من قبل أنك إذا قلت: هذا زيدٌ فزيد اسم لمعنى قولك هذا الرجل إذا أردتَ شيئا بعينه قد عرفه المخاطَب بحلْيته أو بأمر قد بلغه عنه قد اختُص به دون من يعرف فكأنك إذا قلت: هذا زيد قلت: هذا الرجل الذى من حِليته ومن أمره كذا وكذا بعينه، فاختُصّ هذا المعنى باسم عَلَم يلزم هذا المعنى»، ولحظه من بعيد الأعلم: «وإنما كثرت أسماء هذه الأشياء عند العرب، واتسعت فيها على مقدار ملابستهم لجنس منها، وكثرة إخبارهم عن ذلك الجنس كالأسد والذئب والثعلب والضبع، فإن لها عندهم آثارا تكثر بها أخبارهم عنها، فيَفْتَنُّوْنَ في أسمائهم وكناها، ولأن إقامتهم في البوادي، وكونهم في البراري، قد تقع أعينهم فيها على طير غريب، ووحش ظريف، ويرون من دواب الأرض وهوامها وأجناسها مالا اسم له عندهم، فيسمونه باسم يشتقونه من خلقته أو فعله أو من بعض ما يشبهه، أو غير ذلك، أو يضيفونه إلى شيء على ذلك المنهاج، ويلقبونهم كفعلهم بالناس.
واعلم أن تلقيب هذه الأشياء وتسميتها بهذه المعارف في مذهب سيبويه، دلالة على الاسم وبعض صفاته وخواصه، ألا تراه قال: فكأنهم إذا قالوا: هذا ابن قترة فقد قالوا: هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا»، وتنبه عليه الشاطبي (ت:790هـ) «فإن قيل: فقد كان لهم أن يستغنوا بقولهم: أقبل الأسد، عن قولهم: أقبل أسامة إذا كان معناهُ معناهُ؟
فالجواب: أن اسم الجنس قد يستعمل على غير هذا الوجه فإنك قد تقول: هذا الأسد، وأنت تعني كمال الأسدية فيه، وقد تقوله وأنت تريد الجنس، فأرادوا أن يخلصوا ما أرادوا من المعنى باسم علم يخصه كما أن الرجل لما كان يستعمل على غير معنى واحد، خصوا أحد معانيه باسم علم فقالوا: زيد، فالعلم الشخصي والجنسي في هذا القصد على معنى واحد، فتدبر هذا المعنى، فإنه معنى كلام سيبويه والنحويين ومراد العرب».
والذي ألحظه أن هذه المسألة تعد شائكة عند بعض العلماء؛ ولذلك كثر الكلام فيها حتى زعم الخسروشاهي حينما سئل عنها أنه لا يعرف جوابها بمصر إلا هو.
الجواب على السؤال الثاني:
الذي دعا العرب إلى وضع علم الجنس هو علاقتهم ببعض تلك الأشياء في صحاريها، وتنبههم لبعض صفاتها؛ فكانت عندهم بمنزلة المألوف من الأشياء كالحيوانات التي وضعت لها أعلام أشخاص كالإبل، والخيل، والكلب، وغيرها، وهو معنى تنبه له صاحب الكتاب، «ومن ذلك ابنُ قِتْرَة، وهو ضرب من الحيات، فكأنهم إذا قالوا: هذا ابن قِتْرَة فقد قالوا: هذا الحية الذي من أمره كذا وكذا، وإذا قالوا: بنات أوْبَر فكأنهم قالوا: هذا الضرب الذي من أمره كذا وكذا من الكمأة، وإذا قالوا: أبو جُخَادِب فكأنهم قالوا: هذا الضرب الذي سمعتَ به من الجُخَادِب أو رأيته، ومثل ذلك ابنُ آوى كأنه قال: هذا الضرب الذي سمعته أو رأيته من السباع؛ فهو ضرب من السباع كما أن بنات أوبر ضرب من الكمأة»، وملاحظة الأعلم لهذا المعنى أكثر وضوحا إذ يقول: «وإنما كثرت أسماء هذه الأشياء عند العرب، واتسعت فيها على مقدار ملابستهم لجنس منها، وكثرة إخبارهم عن ذلك الجنس كالأسد والذئب والثعلب والضبع، فإن لها عندهم آثارا تكثر بها أخبارهم عنها، فَيَفْتَنُّوْنَ في أسمائهم وكناها؛ ولأن إقامتهم في البوادي، وكونهم في البراري، قد تقع أعينهم فيها على طير غريب، ووحش ظريف، ويرون من دواب الأرض وهوامها وأجناسها مالا اسم له عندهم، فيسمونه باسم يشتقونه من خلقته أو فعله أو من بعض ما يشبهه، أو غير ذلك، أو يضيفونه إلى شيء على ذلك المنهاج، ويلقبونهم كفعلهم بالناس».
انتهى...
