No Image
عمان الثقافي

يقظةُ الحبّ على حافة الأفول! لو كانت هناك حياة ثانية... لأردتُ أن أعيشها معكِ

24 ديسمبر 2025
24 ديسمبر 2025

هدى حمد -

لا نستطيع حصرَ ما كُتب عن لذّة بداياتِ الحبّ؛ عن الولع المحموم بالاشتياق، والانفعالات الجامحة، عن الشباب المُتدفّق وجماله الآسر وهو يقتحمُ تجاربه المُغلقة والسرّية لأول مرّة. غير أنّ القليلَ فقط، كُتب عن الحبّ في نهاياته، حين يهدّدُه الانفصالُ القدريُّ المحتوم. هناك، في تلك اللحظة المعلّقة على حافة الأفول، وجد الفيلسوفُ نفسَه يقظا لحضورِ الحبّ كما لو كان يستقبله في مطلعِه الأول!

عندما بلغت دورين الثانية والثمانين من عمرها، كان جسدُها قد انكمش قليلًا عمّا كان عليه في سنوات الفتنة الأولى. عندها كتب عنها الرجلُ الذي أحبّها وتزوّجها وعاش معها ثمانٍ وخمسين سنة. كتب عنها لأنّه اكتشف متأخّرًا -وربما في اللحظة الأشدّ حساسية في قصّتهما- أنّه أحبّها أكثر من أي وقتٍ مضى، وأنّ خواءً مفترسًا نهض في داخله، ولم يعد قادرا على ملئه إلا بدفئها المُهدّد بالانطفاء!

عندها تساءل زوجها الفيلسوف بمرارةٍ خافتة: «لماذا تضاءل حضورها إلى هذا الحدّ في كل ما كتبته عنها؟ وكيف غاب أثرُها عن نصوصي، وهي أهمّ ما حدث في حياتي؟». سؤالٌ هزّه من الداخل، وكشف له أنّ عليه أن يعيد تشكيل المعنى.. معنى حكاية الحبّ التي عاشاها معًا.

هكذا قرّر غورتز أن يكتب عن الروابط اللامرئية التي كانت تنسجُ بينه وبين زوجته دورين شيئًا آسرًا، كأنّهما نُذِرا أحدهما للآخر، لانسجامٍ خفيّ يعملُ في الأعماق دون ضجيج. تحدّث عن تلك المعجزة التي كانت تجمعُ بين القوة والرقة في صورة الزوجة. فمنذ أن تزوّجا، بدت كأنّها تُشيّد معه عالمًا صغيرًا، محميًا وحاميًا لهما في آنٍ معًا؛ عالمًا متينًا تنمو فيه حياتهما المشتركة وتتسع.

ورغم إحساسه الطاغي باختلافاتهما العميقة في الطباع، وفي طريقة النظر إلى العالم، إلّا أنّهما كانا يلتقيان عند جرحٍ أصليّ واحد؛ جرح قديم، يسكنُ كلًا منهما، ويمنحهما -من حيث لا يعلمان- تلك القدرة الغامضة على التماسك والبقاء معًا.

نقرأ عن هذه الحكاية في كتاب «رسالة إلى د - حكاية حبّ» للفيلسوف أندري غورتز، ترجمة أشرف القرقني، والصادر عن دار سبعة. تبدو الرسالة كأنّها اعترافٌ متأخرٌ يكتنفه الندم، يكتبه فيلسوفٌ تجاوز الثمانين، ليعيد النظر في معنى الحبّ بعيدًا عن النزعة الرومانسية والمسارات العاطفية الجاهزة. إذ لا يروي قصّة حبّه لزوجته بوصفها مجرّد سردٍ عاطفي، بل باعتبارها قوة أعادت تشكيل حياته.

يرى غورتز أنّ الحبّ تمزّقٌ داخل الذات، وصيرورةٌ تجعل الوجود في حالة تشكّل دائم. فالحبّ لا يمضي دون مشقة، لا سيما وأنّ حكايتهما تتكشّف في أربعينيات القرن الماضي، في زمنٍ يشطر إيقاعه حزنٌ موجع. ويتساءل الفيلسوف: كيف يمكن لكينونة أحدنا أن تمضي خارج ذاتٍ مشتركة؟ فالحبّ -من وجهة نظره- يربطُ الذاتَ بآخر، ليُعاد تشكيل المعنى بينهما؛ معنى يجعل الاثنين معًا أكثر قدرةً على مواجهة عبث العالم ووحشته.

يكتب غورتز عن دورين باعتبارها المرأة التي انتشلته من غربته عن نفسه. معها اكتشف بُعدًا آخر للوجود، وكأنّ الحبّ منحه «غيريّةً إضافية»، يرى العالم من خلالها بعمقٍ أشدّ. هكذا، يمرّ الحبّ على مجسّات الفيلسوف الفاحصة، بحثًا عن فهمٍ أوفى للذات ولحركتها داخل المجتمع. فالحبّ، في نظره، لا يكتمل إلا حين يتحرّر من أوهامه، ليظهر جوهره الصافي، كما لو أنّنا في عودة صافية إلى أصل الإنسان.

يستعيد غورتز سؤال رامبو في «فصل في الجحيم»: هل يمكن للحبّ أن يُبتكر من جديد؟ ورغم أنّ هذا الحبّ مُعرّضٌ دائمًا للتمزّق بفعل الخصومات أو الخيانات، فإنّ قوته الحقيقية تكمن في قدرته على المجابهة وسط الانكسارات. فالتحديات لا تمحوه، بل تكشف عمقَه وصمودَه، وتعيد إليه وهجه الخفيّ.

في تأمّله العميق يرى غورتز، أنّ هذا النوع من الحبّ لا يمكن تفسيره فلسفيًا بسهولة، رغم أنّ سارتر خصّص ما يقارب ثلاثين صفحة في كتابه «الوجود والعدم» للحديث عن استحالة تفسير السبب الذي يجعل الإنسان يُحبُّ شخصًا مُحدّدًا بعينه، ويريد أن يُحَبّ منه بالتحديد، دون غيره من هذا العالم!

ننجذبُ إلى الصوت، الرائحة، لون البشرة وطريقة الحركة والكينونة، وإلى كلِّ ما يجعل الآخر يتصادى في أعماقنا، فلا نملكُ القوة لصدَّه أو لعلنا لا نريد!

أُتيح لهذا الفيلسوف وزوجته أن يشتركا في العمل الثقافي معًا، رغم صعوبة العيش مع كاتبٍ يميلُ إلى العزلة، وإلى تدوين ملحوظاته في ساعات من النهار والليل. كاتبٌ يبقى مشغولًا بنصه حتى بعدما يضع قلمه جانبًا. كانت دورين تقول له دائمًا بتفهم شديد: «أن تُحِبّ كاتبًا يعني أن تُحِبَّ أنّه يكتب»، فأن تكتب يعني أن تغيب ذاتك عن العالم وعن نفسك.

عندما اختبر غورتز البطالة، وقفت دورين إلى جانبه وساندته. وفي قلب تلك المشقة، أُتيح لعلاقتهما أن تنمو على نحوٍ مختلف، إذ منحتها قسوة العيش أجنحة الطمأنينة تجاه المستقبل. بينما كانت المحنة تُغرق الفيلسوف في اكتئاب حاد. بقيت دورين تلتقط لحظات السعادة الصغيرة، واثقة بقدرتها على تحويلها إلى حياة أكثر ثراءً.

في فترة من حياتهما، كان عملهما يقوم على مراجعة الصحف والمجلات؛ تلك الأكداس الهائلة التي ينبغي تلخيصها والكتابة عنها. لكنها كانت أيضًا الحطب الذي يُدفئ موقدهما المعدني الصغير في غرفتهما الوحيدة. تكشف هذه الحادثة كيف يمكن لحياة بسيطة ومتواضعة أن تُؤسّس علاقة قوية بين اثنين.

بدت دورين بالنسبة للفيلسوف كمصفاة تُعيد صياغة صلته بالعالم. تقرأ أعماله ومقالاته، وتبادله وجهة نظرها النقدية. رغم نفورها من النظريات الصارمة التي تراها لجامًا يحجبُ عنها رؤية البنية المُتحركة للواقع، فقد كانت تفضّل النظر إلى الحياة والكتابة عبر حدوسها وعاطفتها. تُنمّي ذاتها بعيدًا عن الرُقع النفسية التي تصنعها العقائد والأنساق المُغلقة، بينما كان الفيلسوف يقع دائمًا في شرك النقد الذاتي. فتقول له دورين: «حياتك هي أن تكتب... فاكْتُب إذن». وكأنّ نبوغها متمثلٌ في تثبيت الفيلسوف داخل حياته.

لكنّ المرض بدأ يُقوِّض كلَّ شيء، ولذا بدا غورتز نادمًا حين أدرك أنّه لم يكتب عن دورين كما يجب؛ كتب فقط تلك اللمسات الصغيرة التي تُقزِّم حضورها، وتشوهه، وتسرق المعنى الحقيقي للسنوات التي عاشاها معًا. كم عذّبه الشعور المُوجع برغبته في استعادة السنين والمرأة التي كانتها، وكان يُلخّص مرارته بعبارة كافكا: «إنَّ حبي لكِ لا يحبُّ ذاته».

كانا يتقاسمان القيم نفسها، ويحملان تصورًا مشتركًا عمّا يمنح الحياة معناها أو يُهدد باستلابها. ينتزعان ساعتين يوميًا للمشي، وكانت دورين تبدو متواطئة مع كل ما هو حي. علّمته كيف ينظر إلى الحقول والخشب والحيوانات، وكيف يُصغي إلى ثراء الحياة المُخبأ خارج حدود النظريات. «كنّا ثريين بهذه الاختلافات».

كان كل شيء يوحّدهما، إلا آلام الرأس الغامضة التي بدأت تُفسد شيئًا ما. لم تجلب المهدئات لها إلا الانهيار والاكتئاب. كان يرغبُ بقوة في مشاركتها محنتها، لكنها بقيت وحيدة في هذا الألم. حاولت أن تفهم جسدها كي تتجنب هيمنته عليه لكنها لم تفلح. وبينما كان الفيلسوف يعزقُ الأرض في الريف لأجلها، كانت تبقى في غرفتها جامدة، تُثبّت بصرها بعيدًا، كمن يتعلّم ترويض الموت أو مجابهته دون خوف.

المرأة التي كانت تقول له: «حياتك هي أن تكتب... أكتب إذن» صارت حبيسة الفراش، ولم يعد بإمكانه تخيّل الكتابة دون حضورها الجوهري كبوصلة لحياته. يستحضرُ عبارة جورج باتاي: «تأجيل الوجود»، فلقد وجد نفسه، في لحظة التهديد بفقدانها، منتبهًا لحضورها كانتباه البدايات.

ولا أدري حقا إن كانت قصّة الحبّ تبدأ أم تنتهي بصورة رجل يسيرُ خلف نعش المرأة التي أحبّ، بينما صوت كاثلين فَريز ينساب قاسيًا: «العالم خاوٍ، ولا أريد أن أحيا بعد الآن». كان يمضي ومطرقةٌ واحدة تئنُ في رأسه: «لو كانت هناك حياة ثانية... لأردتُ أن أعيشها معكِ».

هدى حمد كاتبة وروائية عُمانية