الحوت الأزرق علمني

21 ديسمبر 2025
21 ديسمبر 2025

قد يكون مر عليكم فيديو قبل أيام يظهر موت الحوت الأزرق، بالنسبة لي هذا الوقت من العام هو الوقت الذي أرسم فيه نوايا العام الجديد، إلا أن هذا الفيديو غيّر اتجاهي بشكل كبير، فهو يتحدث عن عملية موت الحوت الأزرق، في مكان لا يصل إليه الضوء، حيث تتحدث الأمواج لغة لا نسمعها، تنتهي حياة الحوت الأزرق، الكائن الذي يفوق حجم الطائرات، ويتحرك بثقة هادئة لا تشبه ضخامة جسده.

نهايته ليست مجرد حدث طبيعي؛ إنها صفحة من كتاب التدبير الإلهي لمن يتأمل، فما إن يتوقف نبضه حتى يغرق مباشرة، وينزل إلى الأعماق المظلمة كأن الأرض البحرية تحتضنه للمرة الأخيرة.

إذ يبدأ جسمه في التحلل ببطء، ومعه تبدأ دورة حياة جديدة تماما. جثة واحدة تتحول إلى مصدر رزق لكائنات تعيش على عمق آلاف الأمتار. تتحول إلى مأوى، وغذاء، وبداية حياة لأنواع لا نعرف أسماءها. فمن موت واحد تخلق حياة كاملة، سبحانه «يخْرِج الْحَيَ مِنَ الْمَيِتِ وَيخْرِج الْمَيِتَ مِنَ الْحَيِ».

فهذا ليس مشهدا بيولوجيا عابرا، بل رسالة مفتوحة من الخالق لنا: أن ما من شيء يضيع. حتى جثة هائلة في قاع البحر يجعل الله فيها رزقا مهيأ لمخلوقات لا نراها. فكيف برزق إنسان يتوكل عليه؟

الحوت الأزرق بكل ضخامة جسده لا تحميه من مرض بسيط. والحكمة واضحة: القوة الحقيقية ليست في الحجم، ولا في الموارد، ولا في المكانة، بل في رعاية الله وفضله. ما نتشبث به كقوة قد يكون أضعف نقاطنا، وما يرسل الله من أسباب قد يكون أعظم حماية.

وحين نرى سقوط الحوت نتصوره نهاية، بينما هو بداية دورة حياة تمتد عشرات السنين. كم من الأمور في حياتنا تبدو لنا خسائر، بينما يدبر الله بها بدايات جديدة؟ كم مرة سقط شيء من يدنا لنكتشف لاحقا أنه كان الطريق للخير الأوسع؟

حتى الصمت الذي يحكم حياة الحوت وموته يحمل رسالة: ليس كل أثر يصنعه المرء يحتاج إلى ضجيج. قد يعيش الإنسان بصمت، لكنه يترك خلفه أثرا يطعم قلوبا كثيرة، ويشعل نورا في أماكن لا يتوقعها.

قصة الحوت الأزرق ليست عن المحيط، بل عنا. عن ثقتنا بأن تدبير الله لا يشبه تدبير البشر. عن يقيننا بأن هناك حكمة في كل ما يحدث حتى عندما لا نفهم. الله يغلق بابا هنا ليفتح بابا أجمل هناك. يأخذ من مكان، ليمنح في مكان لا يخطر على بالك. فاطمئن، الذي لم ينسَ مخلوقا في ظلمة البحر، لن ينساك أنت. تذكرها وأنت تخطط لعامك القادم.

حمدة الشامسية كاتبة عمانية في القضايا الاجتماعية