مهمة محفوفة بالمخاطر بحثا عن جثامين الشهداء
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في أحد الأزقة المتفرعة من حيّ الزيتون بمدينة غزة، يقف الشاب يوسف العطار أمام فراغٍ واسع، كان حتى وقتٍ قريب عمارة سكنية تعجّ بالحياة. لا يحمل يوسف صورةً ولا وثيقة، بل ذاكرة مثقلة بأسماء أربعين فردًا من عائلته، قضوا دفعة واحدة تحت الأنقاض في العام الأول لحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة. يقول يوسف إن اللحظة التي أدرك فيها أنه الناجي الوحيد كانت أشد قسوة من صوت الانفجار ذاته، موضحًا: «عندما خرجتُ من تحت الركام، لم أكن أبحث عن نفسي، كنت أبحث عن وجوههم واحدًا واحدًا، وحين لم أجد أحدًا، فهمت أنني بقيت وحدي، وأن الصمت الذي عمّ المكان لم يكن هدوءًا، بل الحضور الفعلي للموت الجماعي».
10 آلاف جثة تحت الركام
يستعيد يوسف تفاصيل الساعات الأولى بعد القصف، حين حاول بيديه العاريتين وأظافره أن يزيح الحجارة، مدفوعًا بنداء داخلي لا يعترف بالمنطق أو الخوف. يقول لـ«عُمان»: «لم أفكر في القصف ولا في الموت، كل ما كان في رأسي أن أسمع صوتًا، أن أخرج طفلًا، أو أمسك بيد أحدهم». يضيف أنه كان يسمع أحيانًا صدى أصوات يعرفها جيدًا، أو يتخيّل أنه يسمعها، قبل أن يصطدم بالواقع القاسي: «كنت أصرخ بأسمائهم، ثم أكتشف أن ما يجيبني ليس صوتهم، بل ارتطام الحديد بالإسمنت، ورائحة الحريق التي ملأت صدري».
مرّت الأيام ثقيلة، ومع كل محاولة فاشلة لانتشال الجثامين كانت الفاجعة تتجدّد. لم يتمكّن الدفاع المدني آنذاك من الوصول إلى العمارة المدمّرة بسبب كثافة القصف ونقص المعدات، فبقيت الجثامين في مكانها، تتحلل ببطء تحت ركامٍ مغلق. يصف يوسف تلك المرحلة بقوله: «عشنا عامًا كاملًا ونحن نعرف أنهم تحت أقدامنا، لكننا لا نستطيع الوصول إليهم. لا عزاء، ولا جنازة، ولا قبر أزوره. كأنهم غائبون بلا نهاية». ويضيف: «أقسى ما في الأمر أن الفقد ظلّ معلقًا، لا هو موتٌ مكتمل، ولا حياة يمكن التمسك بها».
بعد عامٍ كامل، لا يزال يوسف يقف في المكان ذاته، لكن الألم تغيّر شكله. صار الحديث عن انتشال الجثامين يعيد إليه تفاصيل اللحظة الأولى، ويوقظ السؤال الأكثر وجعًا: كيف يمكن تكريم من رحلوا إذا ظلّوا أسرى تحت الركام؟ يقول يوسف: «لا أريد شيئًا سوى أن أدفنهم بكرامة. أن أعرف أين هم، وأن أقرأ الفاتحة فوق قبورهم». ويختم شهادته بالقول: «انتشال الجثامين بالنسبة لي ليس عملًا فنيًا ولا إجراءً إداريًا، بل هو آخر ما أستطيع تقديمه لعائلتي..آخر شكل من أشكال الوفاء».
ومنذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى 16 ديسمبر 2025، خلفت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، أكثر من 70,665 شهيدًا، بالإضافة إلى 171,145 جريحًا، مع بقاء آلاف الضحايا تحت الأنقاض. وتتفاقم الكارثة الإنسانية مع الدمار الشامل الذي طال البنية التحتية، حيث تشير التقديرات الأممية إلى تضرر أو تدمير أكثر من 80% من المباني في القطاع، بينما تسببت العواصف والمنخفض الجوي الحالي في انهيارات إضافية للمنازل وغرق مخيمات النازحين، مما أسفر عن سقوط المزيد من الضحايا الجدد جراء الظروف المعيشية القاسية.
ووفقًا لتقديرات الحكومة في غزة، فإن أكثر من عشرة آلاف فلسطيني في القطاع ما زالوا في عداد المفقودين، لا تعرف عائلاتهم إن كانوا أحياء في مكانٍ ما أو مدفونين بصمت تحت الأنقاض. وتشير الحكومة إلى شطب نحو 2200 عائلة فلسطينية كاملة من السجل المدني، إضافة إلى أكثر من 6350 شهيدًا ومفقودًا من عائلات أُبيدت بالكامل، في مؤشر صادم على حجم الفقد غير المسبوق الذي خلّفته الحرب.
تنظيم بعد الفوضى
الدفاع المدني في قطاع غزة بدأ عمليات منظمة للبحث عن جثامين الشهداء المفقودين تحت أنقاض المنازل والمباني الصغيرة التي دمرها الاحتلال خلال حرب الإبادة الجماعية، وذلك بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وأوضح الدفاع المدني، في بيان صحفي، أن هذه المرحلة تهدف إلى تنظيم جهود الانتشال بعد شهور طويلة من المحاولات العشوائية والمبادرات الفردية، في ظل استمرار نقص المعدات الثقيلة. وأشار إلى أن الصليب الأحمر زوده سابقًا بحفار واحد فقط، في حين تتطلب الحاجة الفعلية ما لا يقل عن أربعين آلية ثقيلة.
ومع بدء هذه المرحلة، تحاول الطواقم العمل بأدوات محدودة وإمكانات شحيحة، وسط استمرار رفض إدخال المعدات اللازمة، ما يجعل المهمة شاقة وطويلة، لكنها، رغم ذلك، تمثل أملًا أخيرًا لآلاف العائلات.
انتظار طويل تحت الأنقاض
في منطقة الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، يروي خالد السالمي قصة عامٍ كامل من المحاولات الفاشلة لانتشال جثث أقاربه العالقة تحت أنقاض برج سكني. يقول: «حاولنا بكل ما توفر لدينا من أدوات وأيادي، لكن الركام كان أثقل من قدرتنا، والمعدات غائبة، ولم نعرف كيف نبدأ».
يوضح السالمي أن الدفاع المدني بدوره لم يتمكّن من تنفيذ المهمة آنذاك بسبب نقص الآليات الثقيلة، فظلّت الجثامين في مكانها. ويضيف لـ«عُمان»: «كل يوم كان الحزن يتكدس في صدورنا، وكل محاولة فاشلة كانت تزيد من شعورنا بالعجز، وكأن الزمن توقف عند لحظة الفقد».
ويكشف السالمي عن جانب آخر من المعاناة: «لم يكن الألم جسديًا فقط، بل نفسيًا. كلما رأيت أحد الجيران يحاول البحث عن ذويه، كانت الذاكرة تعيدني إلى صور أقاربي، وكنت أشعر بالعجز أمام هذا الركام الذي يبتلع كل شيء». ويوضح: «الأمل لم يمت، لكنه أصبح مخفيًا تحت طبقات الركام، ونحن في انتظار الفرصة هذه، لتكريم شهدائنا».
مهمة أخطر من القصف
وبينما تتراكم الأسئلة في صدور آلاف العائلات التي تنتظر مصير أبنائها المفقودين، لا تتوقف المأساة عند حدود الفقد وحده، بل تمتد إلى ما بعد الصمت. فانتشال جثامين الشهداء في غزة تحوّل إلى معركة إنسانية جديدة، تُدار في ظروف استثنائية خلّفتها حرب الإبادة والدمار الشامل.
في تصريح لـ«عُمان»، يوضح محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، أن هدوء حدة القصف مع وقف إطلاق النار لا يعني انتهاء الخطر، بل بداية مرحلة مختلفة وأكثر تعقيدًا. فبعد انحسار الغارات، تبدأ الطواقم العمل في بيئة مشبعة ببقايا المتفجرات والركام غير المستقر، بحثًا عن أجساد دفنتها الحرب تحت أنقاض المنازل.
ويشير بصل إلى أن الآليات التي تدخل مواقع التدمير تعمل في مساحات تُشبه حقول ألغام مفتوحة، حيث تنتشر الذخائر غير المنفجرة بين الكتل الخرسانية، وقد تنفجر عند أدنى احتكاك. ويضاف إلى ذلك خطر المباني الآيلة للسقوط، حيث تظل الجدران المتصدعة والأسقف المعلّقة مهددة بالانهيار المفاجئ.
وبحسب بصل، فإن العمل في مثل هذه المواقع لا يحتمل السرعة أو الارتجال، لأن أي خطأ قد يؤدي إلى سقوط ضحايا جدد. لذلك تُنفّذ عمليات الانتشال ببطء شديد، في ظل نقص حاد في المعدات الثقيلة وأدوات الحماية، ما يجعل طواقم الدفاع المدني في مواجهة مباشرة مع الموت.
ويُبين أن خصوصية المشهد في غزة تكمن في تداخل آثار القصف مع دمار عمراني واسع، حيث لا تزال جثامين كثيرة عالقة تحت أنقاض عمارات متعددة الطوابق، تحتاج إلى إمكانيات غير متوافرة، الأمر الذي يفسّر تعثّر العمليات رغم الحاجة الإنسانية الملحّة.
سموم صامتة
ولا تقتصر المخاطر التي تواجه طواقم الدفاع المدني على الذخائرغير المنفجرة فقط، إذ يحذّر محمود بصل من أخطار صحية خفية ترافق كل عملية حفر، وفي مقدمتها الألياف السامة الناتجة عن تحطم مواد البناء، وخاصة الإسبستوس. ويوضح أن هذه المواد تنتشر في الهواء مع إزالة الركام، وتتسلل إلى الجهاز التنفسي للعاملين من دون أن تُرى، في ظل غياب معدات الوقاية الشخصية.
ويؤكد بصل أن طواقم الدفاع المدني تعمل في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير السلامة المهنية، ما يعرّضهم لمخاطر صحية جسيمة، قد لا تظهر آثارها إلا بعد سنوات. ويضاف إلى ذلك التعامل المباشر مع جثامين بقيت لأشهر طويلة تحت الأنقاض، حيث تكون قد دخلت مراحل متقدمة من التحلل، ويتحوّل بعضها إلى بقايا عظمية جزئية أو كاملة.
ولا يتوقف أثر هذه المشاهد عند الجانب الصحي فقط، بل يمتد إلى العبء النفسي الثقيل الذي يتحمله العاملون. فبحسب بصل، يواجه أفراد الدفاع المدني يوميًا صورًا قاسية للفقد والموت، في ظل غياب أي دعم نفسي متخصص، ما يجعل عملية الانتشال عبئًا مركبًا يجمع بين الخطر الجسدي والاستنزاف النفسي، ويترك أثره العميق على حياتهم الشخصية.
رحلة الموت
يقول أحمد أبو زيد، أحد أفراد الدفاع المدني في غزة، إن انتشال جثامين الشهداء «رحلة نذهب إليها ونحن نعرف مسبقًا أن العودة ليست مضمونة». يضيف: «الخطر يحيط بنا من كل جانب، من تحت أقدامنا ومن فوق رؤوسنا، حتى بعد توقف الطائرات».
ويصف أبو زيد خطواته الأولى في مواقع الركام قائلاً: «نخطو فوق جثامين، نحاول الحذر، لأن أي حركة خاطئة قد تفجّر ذخيرة أو تُسقط جدارًا متصدعًا». ويؤكد أن الخوف لا يفارقهم، لكنه يُكبح: «إذا استسلمنا للخوف، لن يخرج أحد من تحت الركام».
ويشير خلال حديثه لـ«عُمان» إلى أن المخاطر لا تقتصر على الانفجار، بل تشمل تهديدات صحية من تحلل الجثامين والهواء الملوث، «نعلم أن هذا سيؤذينا صحيًا على المدى البعيد، لكن لا خيار أمامنا». ويضيف عن العبء النفسي: «نحمل هذه المشاهد معنا إلى بيوتنا، خصوصًا حين نرى جثمان طفل أو عائلة كاملة، ونقلهم لعائلاتهم لحظة مليئة بالدموع والسكينة ».
