الحوار.. وإنزال الفلسفة إلى الاجتماع
08 ديسمبر 2025
08 ديسمبر 2025
«الإنسان حيوان ناطق».. وخلف نطقه يكمن عقله، ومِن العقل انبثق الحوار والتفلسف، فلا فلسفة مِن دون حوار، ولا حوار مِن دون فلسفة، وقد نفض العقل عن نفسه عباءة السفسطائية بحوارات سقراط الحكيم.
إنَّ الإنسان وهو ينبثق بالوعي؛ عاش حواراً نفسياً دائماً، لأنَّ لحظة هذا الانبثاق مذهلة، تتراءى لنا أثناء انبجاس الوعي لدى الطفل، وهو يتحول شاباً، ماراً بمرحلة المراهقة التي تكثر فيها أحلام اليقظة، إذ إنَّ هذه الأحلام ـ مهما كانت مشتتة ـ ليست إلا حواراً مع النفس، أدركه الإنسان أو لم يدركه.
وهكذا الإنسان في نشأته الأولى عاش حواراً مستمراً مع نفسه، توارثناه نحن البشر، كما ورثنا منه محاولة فهم الطبيعة، وفك غموضها، واكتناه ماهيتها، واستشراف مآلاتها. وكما تطور الحوار مِن الذات إلى الآخر بانفكاك عقدة اللسان، ثم بنشوء منطق اللغة وعلمها، فاللغة ـ كما يتصورها مارتن هيدجر (ت:1976م) ـ (جوهرية لأنَّها حوار)؛ تطور أيضاً تفكير الإنسان محاولاً وضع منطق لفهم الأشياء وإدراك حركة الحياة، وما تخفيه مِن ماهيات، فكان علم الفلسفة.
وهذا ما يفسر نشوء «فن المحاورات» في حقبة تأسيسية مِن تطور الفلسفة؛ وهي الحقبة اليونانية، حيث أصبح الدرس الفلسفي بعدها ليس كما كان قبلها.
لقد كان للفلسفة السفسطائية أثر بالغ على تطور هذا الفن على يد سقراط (ت:399ق.م) وتلميذه أفلاطون (ت:347ق.م)، فقد اعتمد الدرس الفلسفي عند السفسطائيين على البيان المتوالد إلى حد التناقض، حتى اتهموا بـ(أنَّهم كانوا قادرين على تحويل القضية الضعيفة إلى قوية، والعكس بالعكس، ويبدو أنَّ مبدأ التدريب الخطابي عندهم كان يقوم على أنَّ هناك بخصوص أي موضوع وجهين متناقضين: أحدهما قوي، والآخر ضعيف.
بحيث إنَّ مهمة الخطابة هي جني الفوز للجانب الضعيف عن طريق التأكيد على ما هو محتمل بالإقناع) -عزت قرني، الفلسفة اليونانية-. فكان لابد أنْ يؤطر البيان في مصطلحات للمعاني يُتفق عليها، وقد قام بهذا العمل حوار سقراط. وتحت وقعه ضبط أرسطو (ت:322ق.م) التفلسف بوضع علم المنطق. ولم يقتصر فن المحاورات على الفلسفة اليونانية، وإنَّما كان له صدى في فلسفات أخرى كالفلسفة الصينية، حيث ألّف وانغ تشونغ (ت:97م) كتاب «حوارات في الميزان».
كان مهمًا وضع منهج متفق عليه بين الأطراف المتحاوِرة، وإلا لأصبح كل طرف يسير في طريقه الخاص، إنَّ أهم ما قدمه الحوار للفلسفة هو أنَّه اضطرها إلى وضع منهج له، فكان فضلها عليه أنْ وضعت أسس هذا المنهج وأطره. والحوار.. هو الجسر الرابط بين فن الخطابة الذي سار عليه السفسطائيون والمنطق الذي نظّر له واعتمده أرسطو، ومنذئذٍ.. كان لابد مِن محددات منهجية تتفق عليها الأطراف. فخرج الحوار مِن تمحّك الجدل البياني إلى سلاسة الحوار الاجتماعي، حيث أصبح يهتم بالشأن الإنساني في الحياة. الدين.. كذلك اشتمل على حوارات، ففي القرآن.. وُجِد الحوار بين الله وملائكته، وبينه وبين إبليس، كان حواراً فلسفياً عميقاً حول الإنسان، إلا أنّه بلغة الدين الميسرة ببلاغة البيان. ووُجِدت كذلك أنواع مِن الحوار؛ مثل: الجدل الديني: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) «النحل:125»، والجدل الاجتماعي: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) «المجادلة:1» . فلسفياً.. ليس بالضرورة أنْ ينتصر في الحوار أحد الأطراف، أو يُسَلِّم الطرفان بحكم ما، وإنَّما ما يثيره الحوار مِن أسئلة واعتراضات ويولّده مِن أفكار وآراء؛ مطلوب بذاته، لأجل الإثراء المعرفي واستمرار الدرس الفلسفي، يقول أفلوطين (ت:-270م): (لو لم يكن فوجوريوس يسألني لما كان لدي اعتراضات أقوم بحلها، وعليه لم يكن لدي ما أقوله) -حسن التحافي، حوار الحضارات-، ويرتفع مقصد الحوار مِن كشف خطأ المحاوِر إلى تكوين علاقة سامية معه، عبرها تكون المعرفة جسراً للتواصل النفسي والاجتماعي، يقول لاكوردير (ت:1861م): (إنّي لا أقصد بالحوار إفهام محاوري بالخطأ، وإنَّما أبغي الاتصال به في سبيل حقيقة أسمى) -التحافي، سابق-.
الحوار يبدأ مع النفس، فالحوار النفسي طبيعة إنسانية، فلو افترضنا وجود طفل معزول عن البشر؛ فإنَّه سيواجه أسئلة داخل نفسه تُسْلِمه إلى حوار معها، وكلما تقدم به العمر ازدادت أسئلته وتفاعل الحوار في نفسه.
أضف إلى ذلك؛ الفضول الذي جُبِل عليه الإنسان والغموض الذي يلف الحياة، فكان لابد أنْ يتساءل مع نفسه، فهناك أجرام تدور في أفلاك السماء، وكائنات تهيم على وجه الأرض، وأخرى تسبح في الماء وتطير في الهواء، وأعاصير وفيضانات تداهمه بين الحين والآخر، ووحوش تهجم عليه؛ تنازعه البقاء. مِن هذا الحوار النفسي انبثقت أمهات الاختراعات لكي يُسخَّر له الطبيعة وما فيها، التي ما كان لزماننا أنْ يكون على ما هو عليه؛ لولا أنَّ أجدادنا دخلوا في حوار جاد.
ومِن قوقعة الحوار النفسي انطلق الإنسان إلى رحاب الحوار الاجتماعي، فبحواره مع أخيه؛ تتطارحا همومهما ورغباتهما وآمالهما، ولأنَّ الحياة قائمة على سنة الاختلاف؛ نتج عنه تنوع في الرؤى والممارسات. وبمقدار أهمية الموضوع والسلطة التي تهيمن عليه يُضفى على كثير مِن الآراء قدسية، وبمرور الأيام تتشكل المعتقدات، ثم تصبح أدياناً يحرم انتهاكها.
كان على الفلسفة أنْ تحلل هذه الحالة، وأنْ يُعمِل الفلاسفة عقولهم حول المعتقدات المتوارثة؛ سواء أكانت بصبغتها الدينية، أم بصيغتها الأسطورية، أم بلغتها الأدبية، وكانت الفلسفة ـ وهي تقوم بذلك ـ تستفيد مِن التجارب التي تكتسبها، ولتباين تجارب الناس واختلاف أفهامهم في حوادث الدهر، يحصل الحوار دائماً حولها، وبهذا نشأت العلوم في أحضان الفلسفة، وكانت الأديان مساءلة دائماً أمامها.
الحوار منظومة متكاملة.. تتمثل عناصرها في القضية المقصودة به، وفي جذورها، وتطورها التاريخي، وما يدور حولها. وفي البيئة الحاضنة لها، والسياق الاجتماعي الذي يحتويها. وفي فلسفة المجتمع الذي تعيش فيه الأطراف المتحاورة ومعتقداته. وفي تصورات كل طرف مِن أطراف الحوار، وطبيعته النفسية وخلفيته الثقافية. وفي العلاقة بين الأطراف المتحاورة وارتباطاتهم الجانبية، وفي المآلات التي ينتهي إليها الحوار.
إنَّ الحوار لا ينبغي أنْ يكون مبتوراً أو سطحياً، ولا مبتوتاً عن التغيرات العالمية والتحولات الاجتماعية، ولا يستثنى منه شريحة اجتماعية معينة؛ تحت أي مبرر. فالحوار.. هو لأجل المجتمع، وينبغي أنْ يشمل كل شرائحه، التي يمكن أنْ تدخل في الموضوع المطروح. والحوار.. كذلك؛ منظومة متشابكة ومعقدة، تحتاج إلى حكماء ومفكرين لتفكيكها وتعميم الاستفادة منها، وإلى حفر في عمق الوجود الإنساني، وتطوره الحضاري، وفهم لدين الإنسان الفطري وتدينه الاجتماعي، والفرق بينهما، وإلى لقاءات مستمرة، ليس بين المفكرين فحسب، وإنَّما بين صنّاع القرار؛ مِن السياسيين والاقتصاديين والنفسيين والاجتماعيين والدينيين. ولا يكتفي الحوار ليأتي بالثمرة المرجوة منه؛ بتداول الأفكار وتحرير المفاهيم والخروج بالرؤى والتوصيات، وإنَّما يحتاج أيضاً إلى بناء متكامل في الإنسان والسياسة والمجتمع والاقتصاد ومناهج التفكير وأدوات الرفاه.
فمثلاً؛ الحوار حول ظاهرة العنف.. يبدأ بالحديث عن فلسفة الحياة ذاتها، ثم عن استراتيجية المنطقة وما يراد منها ولها، وعن أدوات التحول السياسي والحضاري، وعن علاقة الدين بالدولة، وماهية التدين، وتقاطعه مع مفاهيم كبرى أصبحت مِن أسس الحياة اليومية كالحرية والمساواة والديمقراطية والليبرالية والعلمانية، ثم الحوار حول علاقة الشعوب بعضها ببعض، وحول مفهوم الهُوية والخصوصية.
والحوار حول التحولات في الهُوية.. يأخذ في الحسبان العديد مِن الجوانب؛ مثل: توزيع الثروات بين الشعوب، والحدود السياسية بين الدول، هل تبقى كما هي، تتحدد بها الثقافة والهُوية والسيادة، أو تتحول في ظل العولمة إلى حدود إدارية فقط، كل حكومة تدير قطاعها، ويحل مفهوم الإنسانية محل الهُوية الوطنية والقومية؟
ختاماً.. الحوار كل هذا وأكثر، إنَّه منظومة؛ تبدأ من الشأن اليومي، ولا تنتهي بالقرار السياسي.
