الحروب الأبدية: هدنة لا سلام .. باكستان والهند مثال مناسب
02 نوفمبر 2025
02 نوفمبر 2025
كتب جورج أورويل في روايته «1984»: «الحرب يُراد لها أن تكون مستمرة؛ لا يُراد لها أن تُحسَم». ورغم أن العبارة وردت في عمل تخييلي ديستوبي، فإنها تصف البيئة الاستراتيجية المعاصرة بدقّة. فالحروب الراهنة لا تُشبه حروب الماضي التي كانت تنتهي بمعاهدات أو تسويات حدودية أو انتصار جليّ لطرف على آخر؛ بل تُمدَّد إلى أجل غير مُسمّى، وتتأرجح بين العنف والمناورات غير القتالية دون أن تفضي إلى سلام فعلي. هذه الحروب المفتوحة، أو «الحروب الأبدية»، لا تبحث عن حلول للنزاعات بقدر ما تُغذّي نفسها بنفسها، وتبقيها الخصومات البنيوية والمصالح السياسية حيّة.
الحروب الأبدية ليست فكرة افتراضية؛ إنها تُمارَس على الأرض. فأفغانستان مثال واضح: عشرون عاما من التدخل الأمريكي أخفقت في إحلال السلام، وانتهت في نهاية المطاف بعودة طالبان. وبالمثل توقّعت روسيا نصرا سريعا في أوكرانيا، لكنها انساقت إلى عامها الرابع من الحرب بلا نتيجة حاسمة. ويتكرر المشهد ذاته في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، حيث تعقب كلّ هدنة موجةُ عنف جديدة. هذه الصراعات وسواها من النزاعات الحديثة تُظهر أن الحروب المعاصرة كثيرا ما تتجاوز خططها الأولى، وتمحو الحدود بين الحرب والسلام، لتكتسب صفة «الحروب الأبدية».
يُطرح هنا سؤال: لماذا تطول الصراعات الحديثة؟ أحد الأسباب المهمة هو سوء التقدير المتواصل. فكثيرا ما تبالغ الدول في تقدير قوّتها وتفترض أن خصمها سيتهاوى سريعا، فتُقلّل من شأن مقاومته. وحين تنهار الأهداف الأولى، تميل الأهداف إلى التمدّد، فتتشكّل دائرة مفرغة من الحرب، فاستراحات قصيرة، فاندلاع جديد للعنف. كما تتّسم الحروب الأبدية بالسعي الحثيث إلى أهداف سياسية بالدرجة الأولى، لا بكونها مجرّد منافسات في الكفاءة العسكرية.
ولا تبدو جنوب آسيا استثناء عن هذا السياق. فمنذ قيام باكستان والهند وقعت ثلاث حروب كبرى ومواجهات متقطّعة أخرى غذّتها أساسا أجندات سياسية هندية. وتكرّر الهند النمط نفسه مرارا: تُشعل النزاع بذريعةٍ زائفة، وتتجاهل دعوات باكستان إلى تحقيق محايد في «سبب الحرب»، وتستخفّ بقدرة باكستان العسكرية، ثم تبدأ بالاعتداء على باكستان مُعرِّضة الأمنين الإقليمي والعالمي للخطر، لتنتهي وهي «تنزف أنفا» في المحصلة.
وتُظهر حادثة مايو 2025 أنه حين يواصل طرف ما التصعيد، تغدو حتى الحلول القاطعة غير كافية لضمان الاستقرار طويل الأمد في بيئة سياسية متوترة. ما دامت الغاية هي الإبقاء على سياسة العداء بوصفها خيارا دائما، فلن يختفي شبح الحرب. والأمن الحقيقي في عصر الحروب الأبدية يقوم على الجاهزية، والعمل الدؤوب لإحلال سلام مستدام عبر انخراط دبلوماسي متواصل، ودفاع موثوق، ويقظة لا تهدأ.
تماما كما حدث في أزمة بالاكوت عام 2019، كانت حرب مايو 2025 أحدث نسخة من هذا الكليشيه المبتذل؛ هجوم مزيّف في كشمير المحتلّة من الهند اتّبع النمط الموصوف أعلاه، وانتهى بإطلاق سلاح الجو الهندي العملية المشؤومة «سِندور». غير أنّ ردا حازما وصلبا من القوات الجوية الباكستانية أعاد ترسيخ الردع، وألحق بالهند خسائر مالية واستراتيجية فادحة، وبدّد ادعاءاتها بأنها قوّة مهيمنة إقليميا.
وبعدما توسّلت الهند وقفَ إطلاق النار انتهت الحرب، لكن عدوان حكومة الهند استمرّ. وقد ناقش باحثون وخبراء حول العالم استخدام حزب بهاراتيا جاناتا (BJP) الصراع وسيلة لحشد التأييد الداخلي، وتحقيق الأهداف السياسية، وترسيخ سردية التفوّق الإقليمي. وإلى ذلك كشفت التطورات الأخيرة خطاب الهند العدائي ومؤشراته المتزايدة، مثل التهديد بـ«سِندور 2.0». وهذا ما يجسّد دورة ثابتة من التصعيد ثم التوقّف.
كما يكشف التمحيص الدقيق لهذه الأنماط عن هدف هندي كامن في إبقاء حالة حرب دائمة. وتفاقم العوائق البنيوية وضعا صعبا أصلا، فتجعل التسوية المستدامة منفلتة من اليد: فالردع النووي يحدّ من التصعيد، وغياب الحوار يمنع التوصّل إلى تسوية، ووجود انعدام الثقة يُبقي العداء قائما، فتقع المنطقة في فخّ «الحروب الأبدية». ثمة حاجة للاعتراف بأنّ العداء، على المدى الطويل، لا يخدم مصلحة أي من الدولتين.
الجاهزية العسكرية والردع وحدهما لا يكفيان لكسر هذه الدائرة الجهنمية. وبرغم تحدّياتها، تظلّ الدبلوماسية المستمرّة الطريقَ إلى الأمام. وفي مثل هذا السياق يمكن حتى لدبلوماسية «المسار الثاني» والقنوات الخلفية أن تكون ذات مغزى؛ إذ قد لا تُنهي الصراع، لكنها تساعد على تقليل المخاطر، وإضفاء قدر من القدرة على التنبؤ، وتجنّب سوء التقدير. من دون حوار تبقى فترات التهدئة مراحل هشّة، أمّا مع تواصل فعّال فيمكن تقويض المنطق الذي تقوم عليه «الحروب الأبدية» وفتح مساراتٍ نحو الاستقرار. غير أنّ الدوافع السياسية لحُكم حزب بهاراتيا جاناتا تجعل حلّ النزاع عبر الدبلوماسية أقرب إلى الأمنيات.
وتُظهر حادثة مايو 2025 أنه حين يواصل طرف ما التصعيد، فإن حتى الحلول القاطعة لا تكفي لضمان الاستقرار طويل الأمد في بيئةٍ سياسية مضطربة. ما دامت الغاية هي الانخراط الدائم في سياسة العداء، فلن يزول خطر الحرب. والأمن الحقيقي في عصر «الحروب الأبدية» يقوم على الجاهزية والعمل الدؤوب لصنع سلام مستدام عبر انخراط دبلوماسي متواصل، ودفاع موثوق، ويقظة لا تهدأ.
إزبا ولايات خان مساعد باحث في مركز دراسات الفضاء والأمن في لاهور.
عن صحيفة باكستان اليوم
تمت الترجمة باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي
