ثقافة

الشاعرة الإيرانية ساناز داودزاده فر: العربية كشفت لي زوايا مسكوتاً عنها في الفارسية

30 أكتوبر 2025
كتبتْ بلغة الضاد بدافع الفضول:
30 أكتوبر 2025

*الشعر ليس ملجأً بل طريق عبور من الرقابة والكليشيهات الذكورية

*أتمنى أن يصبح الشعر عادة جماعية لا مجرَّد طقس احتفالي

*علَّمتني "فرخزاد" جرأة الجسد و"شاملو" الوقار السردي و"سپهري" البصيرة الشفافة

مؤخراً جذبت الشاعرة الإيرانية المقيمة في لكسمبورغ ساناز داودزاده فر الاهتمام في الوسط الثقافي العربي بعد أن ترجم الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة ديوانها "أمشي على حروف ميتة" إلى العربية، فالديوان يحمل رؤية خاصة لقصيدة النثر وأفكاراً مبتكرة عن الجمال والقبح.

أصدرت ساناز كذلك ديواناً آخر بعنوان "موت بنهاية مفتوحة"، وهي بخلاف كتابتها للشعر، تمتهن الترجمة، حيث تعمل حالياً على نقل مختارات من قصائد الشاعر الإيراني غلام رضا بروسان إلى العربية، وترجمة مختارات من قصائد الشعراء العرب المناهضة للحرب إلى الفارسية. في هذا الحوار نتعرف على صوت ساناز المختلف القادم من الثقافة الفارسية.

•في البداية ما الذي جعلكِ تهتمِّين باللغة العربية؟ وهل كتبتِ شعراً بالعربية مباشرةً من قبل؟

-لم تكن العلاقة التاريخية بين الفارسية والعربية بالنسبة إليَّ مجرَّد «درس لغة»؛ بل شدَّتني موسيقى الأصوات العربية، وإمكانات الوزن والإيقاع، وآفاق الصور في الشعر الكلاسيكي والحديث. العربية كانت مرآة تكشف زوايا مسكوتاً عنها في الفارسية. أحياناً كتبتُ شعراً بالعربية، لا كمشروعٍ مستمر، بل بدافع التجريب والفضول. هذه التجارب القصيرة علَّمتني كيف أمشي «على حافة لغتين» وأُرهف سمعي أكثر.

•الشاعر محمد حلمي الريشة ترجم ديوانك «أمشي على الحروف الميتة».. هل هو صاحب المبادرة؟

-نعم. الاقتراح جاء منه، لكني شاركته الترجمة. كان حدثاً سعيداً أن تُقرأ قصائدي في لغة أخرى. هذه الشراكة لم تمنحني متعة لغوية فحسب، بل كانت اختباراً لمدى صمود صوري وإيقاعاتي في مرآة لغة ثانية. ويسعدني أن هذا العبور شيَّد جسوراً بين جمهورين.

•هل ترين أن العربية والفارسية تنحدران من جذور مشتركة؟

-من الناحية النَسَبية، لا. الفارسية لغة هندو-أوروبية، والعربية سامية، وهي قريبة من الإنجليزية بقدر قربها من العربية. ما يبدو اليوم من تشابه هو حصيلة اتصال تاريخي وديني وعلمي وأدبي طويل، لا قرابة جينية. فمنذ القرن السابع دخلت آلاف الكلمات العربية إلى الفارسية وصارت جزءاً من ذخيرتنا، وفي المقابل أخذت العربية، خاصة في مجالات الثقافة والحياة اليومية، ألفاظاً من الفارسية. هذا التبادل لم يصنع «نَسَباً»، بل صنع «نِسبة».

• لماذا تميل الثقافتان الفارسية والعربية إلى الشعر أكثر من النثر؟

-هناك عوامل تاريخية وجمالية، ففي شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام صار الشاعر لسان القبيلة الأول، وفي إيران القديمة جعلت الموسيقى الشفوية حفظ النصوص أكثر سهولة.

وحتى العصور الوسطى ظل النثر حبيس الدواوين والنصوص العلمية، بينما الشعر كان حاضراً في السوق والمقهى والشارع، ومن ناحية جماليات اللغة جعل التنوع الصوتي وإمكانات القافية الشعر أكثر جاذبية.

لا أنكر كذلك أن ثمة دوراً اجتماعياً وسياسياً للشعر، إذ كان أداة مدح وهجاء ودعاية واحتجاج، وفي البعد الديني والصوفي أقول إن جمالية التلاوة القرآنية وازدهار التصوف جعلا الشعر وعاءً لتجارب روحية وعاطفية.

•ما مكانة جيلكِ في إيران؟

-جيلنا جيل مُعذَّب بالتجارب، متعب من الاستبداد؛ لكن هذا التعب صنع إرادة صلبة للحرية. أظهر حراك «المرأة، الحياة، الحرية» أن المجتمع الإيراني لا يتأقلم مع أدوات القمع، وهو مستعد لدفع الثمن من أجل الكرامة وحق الاختيار. نحاول أن نحافظ على الإرث النقدي لأسلافنا، ونبتكر في الوقت نفسه لغة وأساليب جديدة للتعبير عن الحرية من الشارع حتى صفحة الورق.

•شعركِ يكشف انفتاحاً على الشعر العالمي.. من هم آباؤكِ الشعريون؟

-في السلالة القريبة علَّمتني فروغ فرخزاد جرأة الجسد وصدق العاطفة؛ وأحمد شاملو اللغة الواسعة والوقار السردي؛ وسهراب سپهري البصيرة الشفافة والحدس البسيط. وفي الأفق الأبعد: فردوسي بعالمه الملحمي، حافظ بجدليته وإيهاماته، وسعدي بأخلاقه الأرضية ولغته المصقولة. كلهم تركوا فيَّ أثراً عميقاً.

•تقولين في إحدى قصائدكِ: «المهم هجرتي فيك، بلا حاجة إلى تأشيرة، إن عدتُ سيخيطون لساني وشفتيَّ». هل يمنحكِ الشعر حرية كسر التقاليد؟

-اخترتُ الشعر لهذا السبب بالذات، فهو فضاء سريالي يمكن إعادة كتابة قواعده. الشعر ليس ملجأً، بل طريق عبور من الرقابة، من الكليشيهات الذكورية، ومن الأطر المغلقة. الفكر لا يُقتَل؛ والشعر يمنحه التنفَّس حتى في أضيق الظروف.

•قصائدكِ أحياناً تبدو كأنها أفكار خاطفة.. ما تعليقك؟

-أبحث عن صور تضيء المشاعر كشرارة وتثير الفكر في آن. غالباً ما تقف هذه الصور عند تخوم الحلم والواقع؛ حيث منطق العاطفة يتفوَّق على منطق التقرير. يهمّني أن تكون الصورة حسيَّة وملموسة، وأن تحمل طبقات دلالية تسمح للقارئ أن يفتح في كل قراءة طريقاً جديداً.

•من أين يتفجَّر شعركِ؟ وما هي منابعه؟

-المصدر الأول هو المجتمع والناس، آلامهم وأفراحهم، إخفاقاتهم وآمالهم. ثم التجربة الشخصية، الذاكرة الجماعية، والقراءة من الكلاسيكيات إلى المعاصرة، ومن الأدب إلى الفنون الأخرى. الموسيقى والسينما أيضاً مهمتان لي؛ فالإيقاع والمَشاهد يسبقان أحياناً الكلمات.

•ماذا تمنحكِ قصيدة النثر؟

-تمنحني حرية متمرِّدة، من دون قيد الوزن أستطيع تتبُّع الإيقاع الداخلي للجملة ورسم الصورة بدقة أكبر. قواعدها وإن كانت أقل تشدداً، إلا أنها تحتاج إلى انضباط داخلي وتكثيف. هذا الشكل يحررني فأنا أشعر أن الوزن والقافية يبطئان إحساسي.

•هل جرّبتِ كتابة القصة أو النثر الأدبي؟

-نعم.. كتبتُ القصة القصيرة وأدب الأطفال. النثر بالنسبة إليَّ ورشة لتشكيل الشخصيات والحوار والتفاصيل، وهي عناصر تُغني الشعر لاحقاً. التنقُّل بين النثر والشعر يجعل الأذن أرهف والبصر أدق.

•أخيراً.. ما أمنيتكِ للشعر؟

-أتمنى أن يبقى الشعر خارج ظل الرقابة، بعيداً عن المصادرات الرسمية والإيديولوجية؛ وأن يظل ساحة تجربة حرَّة، ولعبة جدِّية بين اللغة والحياة. وأتمنى أيضاً أن يصبح الشعر عادة جماعية، لا مجرَّد طقس احتفالي، عادة يومية لتبديد المرارات وزرع المعنى.