القارة العجوز تعيد سباق التسلّح من جديد
28 أكتوبر 2025
28 أكتوبر 2025
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
نشرت صحيفة (فايننشال تايمز) خبرًا أثار موجة دهشة في الأوساط الأوروبية، وكشف أن شركات السلاح في القارة توسّع قدراتها الإنتاجية بمعدل ثلاثة أضعاف المعتاد. وهو توسّع غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد تتبّع التقرير تغيّرات في 150 منشأة تابعة لسبع وثلاثين شركة متخصصة في صناعة الذخائر والصواريخ، وكشف عن سبعة ملايين متر مربع من التطوير الصناعي الجديد.
لكن ما كشفته الصحيفة ليس سوى غيض من فيض؛ فالارتفاع الهائل في إنتاج السلاح يستند إلى برنامج تمويل دفاعي على مستوى الاتحاد الأوروبي بأكمله.
ففي شهر مارس الماضي أقرّ المجلس الأوروبي، وهو الهيئة التي تضمّ قادة دول الاتحاد حزمة دفاعية أُطلق عليها اسم «أعِد تسليح أوروبا»، وهو اسم يحمل دلالات أورويلية (نسبة إلى الكاتب جورج أورويل المعروف بانتقاده لخطاب القوة والرقابة) خصصت لها ميزانية ضخمة بلغت 800 مليار يورو. ومنذ عام 2021 ارتفع الإنفاق العسكري التراكمي في دول الاتحاد السبع والعشرين بنسبة 31% ليصل إلى 336 مليار يورو خلال العام الماضي وحده.
الخروج عن الأعراف المالية
أبرز مكونات الخطة الجديدة هو زيادة الإنفاق العسكري بمقدار 650 مليار يورو على أن يتم تمويل 150 مليار يورو إضافية عبر برنامج اقتراض مشترك جديد يُعرف باسم «الإجراء الأمني من أجل أوروبا»، وستستخدم المفوضية الأوروبية عائداته؛ لإقراض الدول الأعضاء لتمويل مشروعات دفاعية.
ولإتاحة هذا التوسع الهائل مزّق الاتحاد الأوروبي قواعده المالية الصارمة؛ إذ سيُستثنى الإنفاق العسكري من بنود ميثاق الاستقرار والنمو الذي وُضع عام 1997، ويقيد عجز الموازنات الوطنية بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويمنع ارتفاع الدين العام فوق 60%.
بمعنى آخر؛ القواعد التي لم تُغيّر لإنقاذ الاقتصاد اليوناني من التقشّف القاسي، تُبدّل اليوم لتسريع التسلّح الأوروبي. وما هو أكثر من ذلك أن السلطات التنظيمية الوطنية والبنك الأوروبي للاستثمار ستمنح الأولوية في الإقراض لشركات الصناعات الدفاعية بما يفتح الباب أمام تدفق استثمارات القطاع الخاص إلى صناعة الأسلحة.
وقالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن صراحة: «أنفقوا، ثم أنفقوا، ثم أنفقوا على الدفاع والردع». والنتيجة هي أن شركات السلاح الأوروبية تجني أرباحًا قياسية. فقد صرّح المسؤول الأوروبي السابق إيلدار ماميدوف بأن «جماعات الضغط التابعة لصناعة السلاح تنمو في بروكسل كما تنمو الفطريات بعد المطر».
فبعد أسابيع فقط من إعلان خطة «إعادة تسليح أوروبا» قفزت أسهم شركات الأسلحة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
تحوّل في موازين الدفاع
شركة راينميتال -أكبر مصنع دفاعي في ألمانيا التي تنتج العربات المدرعة والذخيرة والمعدات العسكرية- كانت قد ربّعت قيمتها السوقية قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا، ثم تضاعفت مرة أخرى خلال ثمانية أسابيع، لترتفع أسهمها بنسبة 1000% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب.
وتعتزم الشركة افتتاح مصنع جديد للذخيرة في أوكرانيا العام المقبل، بل كانت تفكر في تحويل مصانع سيارات متوقفة، مثل بعض مصانع فولكسفاغن؛ لإنتاج الدبابات.
وأوضح مديرها التنفيذي أن مصنع أوسنابروك «مناسب تمامًا لإنتاج المركبات المدرعة».
وكما ذكرت مجلة نيوزويك الأمريكية؛ فإن راينميتال -التي كانت تُعرف في الحرب العالمية الثانية باسم «راينميتال- بورزيغ»- كانت جزءًا من المجمع الصناعي الحكومي الألماني الذي دعم المجهود الحربي النازي، وقد اعتمدت خطوط إنتاجها آنذاك على العمالة القسرية من معسكرات الاعتقال.
أما شركة ليوناردو الإيطالية -التي تنفذ عقودًا بمليارات الدولارات مع وزارة الدفاع البريطانية- فقد تضاعفت قيمة أسهمها أيضًا. بينما شهدت أسهم شركة بي إيه إي سيستمز البريطانية ارتفاعًا أكثر تواضعًا.
إعادة رسم التحالفات الدفاعية
لقد نجح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نقل عبء الإنفاق الدفاعي إلى الأوروبيين محدثًا تحولًا في موازين الدفاع داخل حلف شمال الأطلسي؛ إذ تراجعت الولايات المتحدة إلى المرتبة الثالثة في الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بعد إستونيا وبولندا.
لكن هذا الارتفاع في الإنفاق لم يمنح أوروبا مكانة القوة العظمى، بل كما اكتشف القادة الأوروبيون الذين استُدعوا إلى البيت الأبيض الصيف الماضي لتلقّي توبيخ من ترامب بشأن الحرب في أوكرانيا، فإنهم يتحملون التكلفة دون أن ينالوا النفوذ.
في المقابل؛ لم تحقق شركات السلاح الأمريكية مثل جنرال دايناميكس ولوكهيد مارتن نفس المكاسب التي جنتها نظيراتها الأوروبية.
شعوب أوروبا متوجّسة
أظهرت استطلاعات الرأي أن أغلبية المواطنين في المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان وبلغاريا والتشيك وسويسرا يعارضون خطط إعادة التسلح بينما يؤيدها بفارق طفيف سكان ألمانيا وبولندا وإستونيا والسويد.
وينعكس هذا التشكيك أيضًا على فكرة انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ إذ يرى نصف الأوروبيين تقريبًا أن الخطوة غير محبذة. ويبدو أن الشعوب الأوروبية محقة في حذرها؛ فالتهديد الروسي مبالغ فيه إلى حد كبير، كما أن ما يسمى بـ«الكينزية العسكرية» -وهي النظرية الاقتصادية التي ترى أن الإنفاق العسكري يمكن أن يحفّز النمو الاقتصاد- لن تفيد العمال الأوروبيين المتضررين.
وقد حذّرت مجلة تايم الأمريكية البارزة من ربط إعادة التسلح بالحرب الأوكرانية، ووصفت فكرة إرسال «قوات أوروبية كبيرة إلى أوكرانيا لضمان تسوية سلمية أو لمقاتلة روسيا عند الحاجة» بأنها «غير واقعية تمامًا، وينبغي ألا تحدث رغم أنها لا تزال تجد صدى في لندن وباريس وكييف».
وأضافت المجلة أن «روسيا رفضت مرارًا أي وجود عسكري غربي على الأراضي الأوكرانية فيما رفضت إدارة ترامب دعم مثل هذا التدخل ما يعني أن أوروبا ستكون مضطرة لخوض حرب مع قوة نووية من دون دعم أمريكي»، وهو احتمال ترفضه أغلبية الأوروبيين؛ لأنه «يتطلب تعبئة كل القدرات العسكرية للمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا تقريبًا».
مصادر السلاح الجديدة
هناك أيضًا مشكلة الاعتماد على الخارج؛ فأوروبا مقارنة بالولايات المتحدة متأخرة تكنولوجيًا ومجزّأة سياسيًا. وعلى الرغم من العقود الجديدة الموقعة مع شركات السلاح الأوروبية؛ فإن 78% من المشتريات العسكرية منذ فبراير 2022 جاءت من خارج الاتحاد الأوروبي، و80% منها من الولايات المتحدة.
ورغم حديث رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن توسيع الصناعة الدفاعية الوطنية؛ فإن دولًا مثل بولندا ودول البلطيق تفضّل الإسراع في شراء الأسلحة الأمريكية مباشرة. لكن حتى لو كانت هذه البرامج ممكنة؛ فإنها تصطدم بعقبة كبرى، وهي المعارضة الداخلية لإنفاق الحرب. فقد قال الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي مارك روتّه: إن على الدول «أن تعطي الأولوية للدفاع على حساب أمور أخرى»، لكن تلك «الأمور الأخرى» تشمل -كما تشير المجلة الأمريكية نفسها- الاستثمارات الحيوية في البنية الأساسية والبرامج الاجتماعية الضرورية لاستقرار المجتمعات الأوروبية.
وهكذا؛ فإن خطوط المواجهة الحقيقية الجديدة لن تُرسَم فقط بين الدول، بل بين المواطنين من جهة، والنخب السياسية وشركات تصنيع الأسلحة من جهة أخرى.
جون ريس باحث زائر في جامعة غولدسميث البريطانية، وأحد مؤسسي حركة «أوقفوا الحرب».
الترجمة عن ميدل إيست آي
