No Image
عمان الثقافي

مذكرات تحية حليم بخط يدها

29 أكتوبر 2025
29 أكتوبر 2025

حسن عبد الموجود -

*قلت لأبي: «لقد منعتَني من إكمال دراستي فدعني على الأقل أُحقق حلمي بالرسم»!

*أخذني حامد عبد الله لمقابلة أسرته في منزله بجزيرة الروضة حيث تعيش في بيت مبني من الطوب اللبِن

*كنا نقوم أحياناً برحلات بالمركب ونرسم اسكتشاتٍ للنيل والبيوت والناس على الشاطئ

*جعلني حامد أبكي بحرقة كثيراً وأنا ألمس قسوته مع أخوته وأشاهده يتعدَّى عليهم

*في باريس كنت أعالج نفسي من الوحدة والشعور بالإحباط بسبب عدم اكتراث حامد

يكاد الكلام عن الفنانة التشكيلية المصرية تحية حليم )1919 – 2003) أن يكون مكرراً على الإنترنت وحتى في أرشيفات الصحف؛ ولذلك فإن حماس ابنة شقيقتها نجلاء رياض لإصدار مذكِّرات خالتها في كتاب عن دار ديوان للنشر قريباً يمكن أن يساعد على رسم وجهٍ آخر غير معروف للفنانة، ورحلتها الشاقة والممتعة في الحياة والفن.

تخصُّ نجلاء ملحق «عمان» الثقافي بجزءٍ من تلك السيرة، وتقول: إنها اختارت لكتابها عنوان «مذكرات تحية حليم.. السيرة المخفية»؛ لأنه يشكِّل وصفاً دقيقاً لسيرة خالتها؛ إذ إن الكثير مما كُتِبَ عنها في الصحف والمجلات لا يتجاوز الحديث عن شخصيتها في الحياة العامة، والجوائز التي حصلت عليها، والإنجازات التي حققتها دون أن يتطرق إلى مراحل حياتها التي سبقتْ شهرتها مثل زواجها، دراستها، تفاصيل إقامتها في باريس ثم عودتها إلى مصر، وهي الجوانب التي لم تُعرَف إلا لأولئك القليلين الذين تابعوا مشوارها الفني عن كثبٍ حتى نهايته.

وتضيف: «كانت تعيش حياة مرفهة، لكنها تركتها ببساطة لتطارد حلمها، بصحبة رفيق دربها زوجها الفنان حامد عبد الله في لوكاندات وغرف بائسة ومقبضة بالإسكندرية، وباريس. تحمَّلت نزق حامد، وصعوبات العيش التي وصلت إلى حد تضحيتها بوجبة الإفطار يومياً في الغربة لتوفير بعض الفرانكات، ومواجهة الطقس البارد في أوروبا بملابس مهترئة وشخصية فولاذية لا تلين أمام الشدائد».

مراحل فنية

تميَّزت أعمال تحية حليم بالتنوُّع ربما بسبب تأثيرات النشأة، فقد ولدت في السودان لأب يعمل ضابطًا في الجيش المصري، وأم جميلة تنتمي للعرق الشركسي، وحين تعرفت على زوجها الفنان حامد عبد الله وضعها على طريق الاحتراف، فقد اصطحبها إلى أستاذه السوري يوسف طرابلسي، لكنه سرعان ما هاجر فعرَّفها حامد على الفنان اليوناني إليكو جيروم.

لا يمكن طبعاً إغفال دور حامد عبد الله في توجيهها، وقد دعاها - في بداية علاقتهما - لزيارة جزيرة المنيل حيث يسكن مع أهله في بيت فقير تمتد أمامه الحقول التي يعمل فيها أبوه وإخوته. وقد استلهمتْ في أعمالها - خلال تلك الفترة - الطبيعة بأشجارها وطيورها والنيل بجريانه السرمدي. ثم سافرا معاً إلى باريس لتلتحق بأكاديمية جوليان، وقد ساعدها الاحتكاك بفناني فرنسا وأوروبا على النضج وأصبح مفهوم الفن بالنسبة لها أكثر اتساعاً وشمولاً.

مجموعات بشرية

لوحظ على لوحات تحية حليم في الأربعينيات - بحسب صديقها الناقد الدكتور لويس عوض - ميلها إلى تصوير المجموعات البشرية، كما يظهر في لوحات «الخروج من المسجد» و«القرية» و«المظاهرة»، وبطبيعة الحال تميز فنها خلال وجودها في أوروبا بلمحة حداثة فرسمت لوحة «من النافذة» لتصور ثلوج لندن، و«الحي اللاتيني»، و«مونمارتر» و«بائع أبو فروة»، و«حديقة في باريس»، وعادت في الستينيات -كما يقول لويس عوض- إلى رسم وجوه وأماكن مصرية كما ظهر في لوحات «إبراهيم وولده»، و«نحو السوق»، و«المصباح»، و«الشيخ إبراهيم»، ثم جاءت «المرحلة النوبية»؛ حيث كانت تحية عضواً في بعثة نظمها وزير الثقافة آنذاك ثروت عكاشة ليعاينوا قرى النوبة قبل أن تختفي بعد قرار التهجير، وقد اختزنت في ذاكرتها ملامح النوبيين ومشاهد من حياتهم الوديعة، وصوَّرتها في لوحات رائعة.

تحية حليم تحكي

تؤكد تحية في مذكراتها أن رحلتها إلى الفن بدأت بقراءة خبر في جريدة الأهرام عن معرض جماعي بصالون الفن التشكيلي للفنانين المصريين والأجانب الذين يعيشون في مصر. طلبت من والديها أن تذهب لتشاهد هذا المعرض الكبير، فسمحا لها بالخروج. كان أول معرض عام تراه، وأيضًا أول تغيير في حياتها كلها.

تحكي: «في طريقي إلى هناك، قلت لنفسي: أشعر أن شيئًا كبيرًا في حياتي سيحدث اليوم، ولا أعرف لماذا قلتُ لنفسي ذلك. أتذكر أنني ارتديت فستانًا لونه خردلي مخططًا بالأسود مع قبعة سوداء كبيرة. أوصلني السائق عم أحمد إلى المعرض، وبينما أتجول بداخله، توقفتُ أمام لوحة لنساء من الأقصر يجلسن على الأرض، يبعن التمر وأطعمةً أخرى. أعجبتني اللوحة كثيرًا، وبعد قليل سألني شاب وسيم يُدعى حامد عبد الله إن كنت أحببتُ المعرض وإن كنتُ أحب الرسم. قلت له: قليلًا، لكن أستاذي هاجر. فاقترح أن يُعرفني على ألكو جيروم، وهو فنان يوناني يُعطي دروسًا. كان حامد أيضًا يذهب هناك ليرسم الموديلات، ويساعد الأستاذ في تجهيز المرسم؛ لأنه يعاني من شلل الأطفال ويحتاج للمساعدة».

دعني أحقق حلمي!

غادرت تحية المعرض بشعور غريب لم تفهمه؛ هل هو فرحتها بوجود مَن يساعدها على متابعة دروسها، أم انبهارها بأعمال ذلك الفنان الشاب؟

وعند رجوعها للمنزل حكت لوالدها كل ما حصل، وإعجابها بلوحات المعرض، وقالت له: «لقد منعتَني من إكمال دراستي؛ فدعني على الأقل أُحقق حلمًا لطالما راودني». ووافق فعلاً..

تواصل الحكي: «ذهبتُ مع والدي، وقابلنا حامد عبد الله بمرسم المسيو جيروم الفنان اليوناني في اليوم التالي، واتفق معه على أن آخذ دروساً عنده ثلاث مرات في الأسبوع، وفرحت جدًّا؛ لأنني وجدت راحة نفسية كبيرة عندما رأيته، كما أن أعماله قد أبهرتني إبهاراً كبيرًا جدًّا، وأحسست أنه فنان كبير فعلًا. والدي انتحى بحامد جانباً ووصَّاه عليَّ، وحامد تحدث معه ببساطة وطلب منه أن يساعدني في شراء الألوان والأشياء اللازمة لي، ووالدي استراح له وقال: باين عليه ابن حلال»..

استمرت الدروس، كان السائق يوصلها لشارع قصر النيل حيث المرسم، ثم يصطحبها حامد في نهاية اليوم إلى محطة المترو لتعود إلى المنزل. كانت سعيدة؛ لأنها أول مرة تخرج وحدها وتتعرف على أماكن جديدة.

بعد ذلك طلب حامد من والدها أن تستمر معه، وأخبره بأنه سيعطيها الدروس في منزله بالمنيل، فوافق. تقول: «أخذني حامد لمقابلة أسرته في منزله بجزيرة الروضة حيث تعيش في بيت مبني من الطوب اللبِن. كان منزلًا بسيطًا كأغلب بيوت الفلاحين، وكان إخوته وأخواته يعيشون جميعًا في طابق واحد، أما هو فخُصِّصَتْ له غرفة مستقلة في الطابق العلوي؛ إذ إنه أكثرهم تقدُّمًا في التعليم».

الخروج من الفقاعة

شعرتْ تحية لأول مرة في حياتها بأنها خرجتْ من الفقاعة التي تعيش فيها، فدائمًا ما كانت تتجول برفقة والدها بالسيارة داخل حدود حي مصر الجديدة فقط، وها هي تتعرف على أهل حامد: «كان والداه من البسطاء الطيبين، يزرعان الخضروات ويبيعانها في سوق البلدة. أُسِرْتُ ببساطة الحياة الريفية وبطيبة عائلته وكرمهم البالغ، وأيضًا بجمال المناظر الطبيعية التي تُحيط بهم من حقول وخضرة، ما ألهمني كثيرًا في بداياتي مع الرسم».

وتضيف: «شعرت دائمًا بالبهجة بين أفراد عائلته، وكنت مأخوذة بجمال الطبيعة من حولي. أخرج حاملةً أدوات الرسم وأجلس لساعات طويلة أرسم وأُلوِّن. كنا نقوم أحياناً برحلات بالمركب في النيل، ونرسم اسكتشاتٍ للنيل، وللبيوت والناس على الشاطئ، ثم نعود لنكمل الرسم في الغيط، وبعدها نذهب لتناول الغداء في حجرة حامد، وهو عبارة عن فول متوصي عليه، وجبنة، وثمرات طماطم وخيار، وأثناء الغداء نضع الأعمال أمامنا ونتفرج عليها ونتناقش حولها مع إحساس لا يوصف من السعادة. صرنا على هذا المنوال فترة، ربما تجاوزت العامين، ورأينا بعدها أننا لا بد أن نعيش سويًا ونبني حياتنا مع الفن، وطلب حامد الزواج مني فقلت له: «أنا شخصيًا موافقة»، فقال: «هل ترضين بهذه الحياة البسيطة التي أعيشها؟ أنا لا أملك شيئاً غير فني!» هززت رأسي موافقة، وقلت: «أنا أحب هذه الحياة ولا شيء عندي أهم من أن أكون فنانة، وبجانب فنان كبير مثلك». وجدت فيه موهبة كبيرة جدًّا، وأُعجِبت إعجابًا كبيراً بكل ما يرسمه، لكن ما أخافني منه هو عصبيته الشديدة مع أهله في كل صغيرة لا تستحق أن يعمل لها الإنسان قيمة».

بصحبة ملك البيت في باريس!

كان حامد – كما تصفه تحية - ملك البيت، أمره مطاع وملزم لكل أفراد العائلة. تعلق: «يجب أن أعترف، لقد شعرت بالخوف وأنا أفكر في زواجي به، ولكن عندما يحكم القدر على أحد لا يمكنه منعه. كان قوي الشخصية معتداً بنفسه لأقصى درجة، أحيانًا يذوب رقة، وأحيانًا ينفعل كالأسد، تحملته في كثير من الأفعال التي لا تعجبني. جعلني أبكي بحرقة كثيراً وأنا أشاهده يتعدَّى على أخواته، وخصوصًا شقيقته التي تتولى ترتيب حياته كلها. وذات مرة قلت له: «هذه الأعمال لا تجعلهم يحبونك». كنا نختلف كثيرًا في بعض الأمور، ونتخاصم، ثم يجمع بيننا الحب ثانيةً، شعرت شعورًا صادقًا أنه يحبني حبًّا حقيقيًا ولا يمكنه الاستغناء عني مطلقًا، وكان يتفاءل بي كثيرًا».

ثم جاءت محطتهما مع باريس.

لكن عاصمة فرنسا لم تفتح لهما ذراعيها، بل إنها أذاقتهما العذاب. تحكي: «كنت أوفِّر من مصروف طعامي لأشتري تذاكر المترو وأحيانًا كثيرة أذهب إلى مواعيدي بدون إفطار؛ فإيجار اللوكاندة (12 جنيهاً) يستنزف نصف ميزانيتنا الشهرية تقريباً، والباقي خصصناه لأكلنا وشربنا وجميع احتياجاتنا أنا وحامد».

وصلا إلى أكاديمية جولبال، وتقدما للمديرة، مدام بالدين، وهي امرأة لطيفة جدًّا فرحَّبت بهما خاصة بعد أن علمت بأنهما فنانان ومتزوجان. وقد تولت تحية بعنايتها الخاصة وباتت دائمة السؤال عنها أيام الدراسة، بل إنها كانت - من وقت لآخر - تستدعيها لمكتبها وتسألها عن حالتها وما إذا كانت تريد اقتراض بعض المال، فتشكرها. تقول تحية: «أحببتها جدًّا لحنانها عليَّ، خاصة عندما فاجأتني ذات مرة وقالت لي: إنها حلمت بأنني غير مستريحة في اللوكاندة، وأحيانًا تسألني: هل وصلتك نقودك؟ وهل أنت محتاجة لأي شيء هنا؟ اعتبريني صديقة لك، أرجوك». مكثت تحية بالأكاديمية ثلاث سنوات سعيدة جدًّا برغم قلة المال. وذهبت أكثر من مرة للريف الفرنسي ورسمته، والتقت هناك بالناس الطيبين فقدموا لها بعض المساعدات، ومرة قابلت فارساً بالغابة التي ترسمها، وظل واقفاً بحصانه إلى أن أكملت رسمه على ورقة في الإسكتش الخاص بالغابة.

زير نساء!

لكن المشاكل بدأت مع حامد المشغول بنفسه طوال الوقت!

تحكي: «كنت في وادٍ وحامد في وادٍ آخر، كان يختفي ولا أعرف عنه شيئاً، لكني التزمت بعملي صباحاً ومساء، كنت أمكث من الساعة التاسعة صباحًا إلى الساعة السابعة مساء في الأكاديمية، ولا أخرج إلا لتناول غدائي فقط وأمكث بالقهوة بعض الوقت، ثم أعود للأكاديمية، وهكذا إلى أن أرجع في المساء إلى اللوكاندة وأجد أنه ترك لي ورقة يطلب فيها أن أنتظره على قهوة (كذا) الساعة (كذا). أذهب لألتقي به فأجده أحيانًا وأحيانًا لا»!

وتضيف: «أخذت حياتنا هذا النمط مدة طويلة، وفي كل مرة صار عليَّ أن أعالج نفسي من الوحدة والشعور بالإحباط بسبب عدم اكتراثه، وأحيانًا أعود منهكة فأنام، وعندما أستيقظ صباحًا أجده نائماً بجواري، ويصعب عليَّ، فلا أوقظه، وأترك له بعض الطعام، وأذهب للأكاديمية بدون أن أراه أو أتكلم معه، لكن كل شيء ينتهي بمجرد أن أطالع وجهه. يأتي الليل نجلس على السرير. نلم كل أعقاب السجائر ونفركها ونلف التبغ في ورق البفرة، فتصير سجائر أخرى. كان التوفير هو قاعدتنا الأولى والثانية والثالثة، فالمبلغ البسيط الذي ترسله والدتي لنا لا يكفي سجائرنا نحن الاثنين».

تعترف تحية بأنها كانت تعرف منذ بدايات علاقتها بحامد أنه زير نساء، لكنها تحملت كل ما رأته وصمتت، فقد تعلقت به أشد التعلق. تقول: «أعلم أنه يحبني جدًّا بالرغم من تصرفاته الصغيرة هذه، كنت أحيانًا أراه مع بعض تلميذاته في أوضاع غير مناسبة وكنت أقول له: يا حامد سوف أتركك يوماً من الأيام وأترك لك حريتك تتصرف كما تشاء، ولكني لا أقبل أن أرى زوجي في هذه التصرفات البذيئة، لكنه لم يكف عن مفاجأتي».

تسرد بعض المواقف السيئة بينهما: «مثلاً.. خرجتُ ذات يوم من الأكاديمية مبكرًا وجلستُ في مقهى بحي سان ميشيل ومعي ألواني المائية لأرسم باعة الشوارع. وفجأة رأيت حامد يخرج من محطة المترو بصحبة امرأة طويلة. لم يرَني في البداية، غير أنه ارتبك حين اقترب مني، ولم يعرف بأي يد يلوِّح. ضحكتُ لأنني اعتدتُ على تصرفاته، وقلت له بالعربية: «ماشي يا سيدي»، فشعر بالحرج، وأخذ يشرح أن المرأة زوجةُ صديق له توفي حديثًا، فتجاهلتُه وأكملتُ الرسم، ثم عدتُ إلى اللوكاندة لكي أغسل ملابسي»!

لم يكف حامد عن إيذاء تحية ولم تكف تحية عن حبه، لكنها أحبت الفن أكثر منه بدليل أنها رفضتْ وصايته عليها ومحاولته للتقليل من أعمالها أحياناً ورفضت بعض التعديلات التي يطلبها وأخبرته بوضوح أنها ليست نسخة منه، لكنها فنانة لها فلسفتها الخاصة في اللوحة، ولا تقبل بأن يوجهها، وهكذا انكسرت تحية كإنسانة، لكنها لم تنكسر أبداً كفنانة!