ثقافة

فيلم "مصيدة الأرانب": زوجان يلاحقان أصوات الطبيعة ويغرقان في المجهول

05 أكتوبر 2025
فلسفة عميقة تكرّس جمالية الصوت لتكتمل متعة المشاهدة
05 أكتوبر 2025

عبر تاريخ السينما كان عنصر الصوت يشكل تكاملًا أساسيًا مع الصورة ومجمل الأدوات والوسائل التعبيرية التي تساهم في إيصال المعنى والمضمون والقصة السينمائية التي تُروى.

كان ظهور الصوت بعد عقود من السينما الصامتة بمثابة تحوّل جذري في المسار السينمائي، ومنذ ذلك التحوّل انطلقت السينما بمبدعيها لاستخدام الصوت بدلالاته وتنوعاته من الحوار إلى الموسيقى التصويرية إلى المؤثرات، وصولًا إلى الصمت لتكتمل المنظومة الصوتية بالتزامن مع التطور التقني في الصورة السينمائية من تقنيات تصوير ومؤثرات صورية وخدع سينمائية وما إلى ذلك.

في هذا الفيلم لكاتب السيناريو والمخرج براين شيني نحن أمام تجربة حسية فريدة ومتميزة لاستخدامات عنصر الصوت بشكل متفرّد ومنحه مساحة عريضة من الإحساس الجمالي الذي يُحرّك ذهن المشاهد بما يجعله مأخوذًا إلى اكتشاف الخواص الفريدة للصوت.

ولعل السؤال المركّب والجدلي الذي يستحق الوقوف عنده كمدخل للدخول إلى طبقات هذا الفيلم وبناه التعبيرية هو الذي تردده الشخصية الرئيسية دارسي -يؤدي الدور ديف باتيل إلى جانب زوجته دافين- تقوم بالدور الممثلة روزي ماكوين، إذ يتساءل: «يا تُرى ماذا يحدث عندما يتلاشى الصوت؟ إلى أين يذهب؟ لا أعتقد أن الصوت يدوم، ذلك لأنه اهتزاز نشيط، أو هو ظل خفي لتبادل الطاقة، الصوت ذاكرة، وهو محفور في الهواء، إنه شبح، إنه مخلوق تائه يتوق للاختباء قبل أن يتلاشى، وفي الأخير، حين تسمع صوتًا تصبح أنت موطنه، جسدك هو موطنه».

هذا الحوار المفعم بالحس الفلسفي والفكري والجمالي العميق يُعطي لمحة مؤثرة عمّا يجري من أحداث، فالزوجان الموسيقيان دارسي ودافين يتركان عالمهما السابق ويتجهان للعيش وسط طبيعة معزولة في ويلز بالمملكة المتحدة وذلك في سبعينيات القرن الماضي، وكأنهما في رحلة فلسفية لاستكشاف أصوات الطبيعة وتلك الأصوات المجهولة للكائنات المتوارية خلف كل تكوين من تكوينات الطبيعة. ولهذا فإن أجهزة تسجيل تلك الحقبة، بكرات الصوت وشريط التسجيل القديم والمايكروفون الضخم وسماعات الرأس القديمة، كلها تحضر لتكون ذلك الواقع الذي تنغمر فيه الشخصيتان.

على أن التحوّل في حياتهما الغارقة في تتبّع نبضات الأصوات ومزجها واستخراج إيقاعها، سوف يتحقق بظهور فتى لا يحمل اسمًا ولا تُعرف له عائلة، يظهر في وسط الغابة ليدخل حياتهما ويتغلغل إلى مشاعر الزوجة في نطاق عطف أمومي هو محروم منه، فيما الزوجة لا تملك جوابًا عن سؤاله: لماذا لم يُنجب الزوجان؟ وما دام ليس هناك من جواب، فليكن هو الابن البديل.

سيكون الفتى، صائد الأرانب الذكي، امتدادًا لعالم شاسع هو المجهول بالنسبة للزوجين، ذلك الذي يتعلق بمساحة غرائبية سبق لها أن ابتلعت شقيقه -كما يقول- وها هي تتجلّى في شكل دائرة محاطة بنبات الفطر، أو وهي تتسرّب بطحالبها وأغصانها المتسلقة الممتدة إلى داخل المنزل بعد سلسلة من ردود الأفعال من طرف الزوجين في رفض فضول الفتى وطرده ثم تقريبه، ثم تحوّل الدراما والسرد الفيلمي إلى نوع من الرعب الذي سوف ينتهك سلام الزوجين، ويكون ذلك الفتى في روحانياته وأطروحاته سببًا رئيسًا في انتشار مساحة الهلع.

تحدث العديد من النقاد عن هذا الفيلم وقد أثار اهتمامهم، ومن بينهم الناقد سيمون أبرامز في موقع روجر إيبرت إذ يقول: «إنه فيلم يقدم دراما خارقة للطبيعة بسحرها وبالتلال الوعرة والغابات المُغطاة بالطحالب والحقول التي تعصف بها الرياح. وخلال ذلك، ووسط هذا التحشيد لعناصر الطبيعة، يبرز اهتمام المخرج بلغة جسد ممثليه وتركيزه عليها، ثم لينقلنا بعد ذلك لما يثبت أنه مخرج أفلام رعب متميز، يثق بقدرة ممثليه على تجسيد ما يتخيله، ويدرك أيضًا أنهم أداته الأهم لجذب انتباهنا بما يتجاوز متعة الفيلم الظاهرية».

وبصدد الحلول والأدوات التعبيرية التي لجأ إليها المخرج بتمكن، تبرز قدرته على إبقاء المشاهد في حالة من الحيرة حول خفايا الأحداث وما سوف تؤول إليه، فضلًا عن التركيز على الشعور بالصدمة من وجود ذلك الفتى القادر على قلب الموازين بشكل مفاجئ وغريب.

أما الناقد جاك فيليبالدي فقد كتب مقالًا في موقع رولينغ تيب حلّل فيه الفيلم، ومما جاء في مقاله: «إن هناك شيئًا طريفًا في هذا الفيلم، إنه قد يكون من أفلام الرعب القليلة التي أنصح بمشاهدتها في المنزل بوضع سماعات الرأس. ليس لأنه ليس فيلمًا سينمائيًا، ولكن لأن الصوت هو النجم الحقيقي في هذا الفيلم، يتسلل القلق عبر أذنيك أولًا، ويزحف إلى عمودك الفقري، وفجأة تجد نفسك في الحالة الذهنية المضطربة نفسها التي تعيشها الشخصيات. هذا المشهد الصوتي وحده يجعل الفيلم جديرًا بالاهتمام. فنانان موسيقيان يحاولان مواءمة رؤاهما بينما يتعاملان مع ثقل علاقتهما مع المحيط».

وبعد هذا فإن الخطوط السردية التي اعتمدها المخرج قد أفضت إلى جعل الشخصيتين بمثابة مرآتين للطبيعة الخارقة المجهولة: تسجيل أصوات كامنة في المجهول، وتحويرها إلى موسيقى، واللعب بنغمات تبدو وكأنها تتردد مع شيء كامن خارج الجدران وخارج المكان. وبذلك تتحول الطبيعة من كونها مفعمة بالحياة وواهبة للجمال والإحساس البكر بالمكان، إلى مساحة غامضة من التوحش والخوف والرعب وصولًا إلى الإجهاز على الدخلاء، وكأن الزوجين كانا دخيلين على تلك المنظومة الطبيعية الإنسانية المغلقة.

من جهة أخرى، هناك فكرة العزلة الإنسانية التي تجري محاكاتها، ذلك الانسلاخ الواعي والقصدي للشخصيتين مرهفتي الحس، والارتماء معًا في أحضان العزلة التي تمثلها الطبيعة. وهناك تتكامل مفرداتها المؤثرة: تلال مغلّفة بالضباب، وغابات مجهولة لم يدخلها بشر، وأكواخ حجرية قديمة ومُتآكلة، كلها سوف تنتظم لتُصبح لوحة فنية مكتملة وفريدة، كل زاوية سوف تُوحي بأسرار وقصص شبه منسية حتى لحظة التحوّل عندما يتسلل الفتى الغامض إلى حياة الشخصيتين. إنه يرى في دافن أمًّا له، بينما يرى في دارسي كائنًا ملوثًا وقد نقل تلوثه إلى الزوجة.

هنا سوف ينحرف السرد ببراعة نحو التجريد ويحاكي الميتافيزيقيا والأساطير المرتبطة بالكائنات الغرائبية والجنيات، وصولًا وختامًا بانسحاب الفتى بعد ترنيمة النوم ليحلّ محله أرنب ميت يحمله الزوجان إلى دائرة نباتات الفطر في مشهد غرائبي تعبيري آخر.

واقعيًا، هي غربة الكائن وانحساره عن صخب عالمه، فالزوجة الفنانة التي تنتشر أسطواناتها وتحيي الحفلات تتخلى عن عالمها الصاخب، بينما الزوج دارسي ملاحق بإحساس غريب أشبه بالكابوس الذي يداهمه في كل مرة مع أنه مفتوح العينين إلى درجة أنه يرى ذلك الكائن الشبح الذي يلاحقه دون أن يقوى على التخلص منه.

إنها دراما فيلمية مفعمة بالحس الجمالي وتجليات الذات ومساحات اللغة الشعرية ونبض الكلمات وأثر الأصوات والأحاسيس الملتبسة المرتبطة بالعزلة والوحدة والانسحاب في مقابل الاندماج بالطبيعة لإنتاج أبلغ ما فيها وما تكتنزه من أسرار وأصوات.

......

سيناريو وإخراج / براين تشيني

مدير التصوير / أندرسن جوهانسن

موسيقى / لوكريسيا دالت

تمثيل / ديف باتيل في دور دارسي، روزي مكوين في دور دافن، جيد كروت في دور الفتى