كلمة كارثي قليلة لوصف الوضع الصحي في مدينة غزة والأطباء عاجزون عن إنقاذ الأرواح
نستقبل يوميا عشرات الحالات الحرجة التي لا يُمكن التعامل معها بسبب نفاد الأدوية ووحدات الدم -
مدير مجمع الشفاء في حوار لـ عمان:
90% من الإصابات التي وصلت إلينا هي حروق من الدرجة الرابعة
معظم المصابين يعانون بترًا في الأطراف نتيجة شدة الانفجارات
نعمل بمبدأ المفاضلة بين الجرحى: ننقذ من نرى أن فرصته في الحياة أكبر
نقول للعالم: ألا يكفي 65 ألف شهيد لوقف الإبادة
غزة- «عُمان»- حاوره: بهاء طباسيفي قلب مدينة غزة المحاصرة، يقف مجمع الشفاء الطبي على خط النار، وهو يواجه انهيارًا غير مسبوق في قدرته على الاستجابة الإنسانية. مدير المجمع، الدكتور محمد أبو سلمية، يرسم صورة قاتمة للوضع، إذ يؤكد أن القطاع الصحي منهك ومدمر منذ بداية العدوان، غير قادر على استيعاب آلاف الجرحى والشهداء الذين يتدفقون يوميًا نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف. في ظل نقص يتجاوز سبعين في المئة من الأجهزة والمستلزمات الطبية، وانعدام وحدات الدم ومشتقاته، يقف الأطباء أمام معضلة «المفاضلة» بين الأرواح: من يُنقذ ومن يُترك ليموت؟
ويكشف أبو سلمية في حواره لـ«عُمان» أن معظم الإصابات التي تصل المستشفى هي لأطفال ونساء، وأن أعداد الشهداء ترتفع باستمرار، بينما الجراحات التي تُجرى بشكل يومي تشمل عشرات من عمليات البتر للأطراف وحالات الحروق التي تصل نسبتها إلى ثمانين في المئة، وهي إصابات تعجز عنها المستشفيات المتقدمة في العالم. ومع هذا، يواصل الطاقم الطبي المرهق عمله على مدار الساعة بلا راحة، رغم أن الطاقة الاستيعابية للمجمع باتت عاجزة عن احتواء الأزمة.
الأزمة لا تقتصر على غرف العمليات فقط، بل تمتد إلى نقص كارثي في وحدات الدم، حيث يحتاج القطاع الصحي يوميًا إلى 350 وحدة، في حين أن المتوافر لا يكفي لإنقاذ حياة الجرحى. ومع انتشار واسع للأمراض الجلدية والمعوية والتنفسية، وانقطاع الأدوية عن المرضى المزمنين، يحذر أبو سلمية من أن غزة تعيش مشهدًا فريدًا من الكارثة المركبة: «من لم يمت بالقصف، مات بالجوع، ومن لم يمت بالجوع والقصف، مات بالمرض».
وبلغة مفعمة بالألم، يوجه أبو سلمية رسالة إلى العالم: «إذا بقي في هذا العالم من يدعي الإنسانية، نقول له كفى. ما هو العدد المطلوب أكثر من 65 ألف شهيد و160 ألف جريح لوقف هذه الإبادة الجماعية؟». دعوته المباشرة تركز على فتح المعابر بشكل عاجل لإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية والغذاء، وحماية الطواقم الطبية والمستشفيات من الاستهداف، قبل أن تتحول الكارثة إلى طوفان أكبر يعصف بما تبقى من أرواح.
إلى نص الحوار...
بداية، كيف تصفون الوضع الصحي الراهن في مجمع الشفاء في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل على مدينة غزة واجتياحها بريًا من قبل جيش الاحتلال؟
الوضع الصحي والإنساني الذي تمر به مدينة غزة اليوم هو الأسوأ منذ بداية العدوان على القطاع. القطاع الصحي أصلًا منهك ومدمر، ولا يستطيع استيعاب هذا العدد الكبير من الجرحى والشهداء الذين يأتون إلينا تباعًا من القصف الإسرائيلي على المخيمات والبيوت ومراكز الإيواء.
نحن أمام شُح كبير يصل إلى 70% من الأجهزة والمستلزمات الطبية، مع غياب وحدات الدم ومشتقاته ونقص في أجهزة المختبرات. لا توجد أسرّة كافية ولا غرف عمليات، ما يجعل الوضع مأساويًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. حتى الطواقم الطبية تعمل تحت ضغط هائل على مدار 23 شهرًا بلا راحة، وهي منهكة ومتعبة. جميع الأقسام ممتلئة تمامًا، والطوارئ تغص بالجرحى في حالات خطيرة، معظمها حروق من الدرجة الرابعة وحالات بتر، بينما أعداد الشهداء مرشحة للزيادة. المشهد في الشفاء كارثي، وربما كلمة «كارثي» قليلة في وصفه.
ما أبرز الإصابات التي تصل إلى المستشفى؟
الاحتلال يقصف البيوت على ساكنيها، والإصابات تكون بالغة الخطورة. نجري يوميًا عشرات الجراحات لبتر الأطراف العلوية والسفلية. الجريح الواحد يحتاج إلى أكثر من تخصص جراحي: العظام، الأوعية الدموية، الجراحة العامة، جراحة المخ والأعصاب، وهذا يفاقم الحالة.
لدينا أيضًا حالات حروق تصل نسبتها إلى 70–80%، وهي نسب تعجز عنها المستشفيات المتقدمة في العالم، فما بالك بواقع غزة المتهالك. خلال الأيام الخمسة الأخيرة، معظم الإصابات كانت من الأطفال والنساء. قبل الاجتياح البري بـ48 ساعة، استقبلنا 65 شهيدًا بينهم 24 طفلًا و20 امرأة. وهذا يدل على أن الاحتلال يستهدف الفئات الضعيفة من السكان.
في ظل نفاد الأدوية والمستلزمات، كيف تتعاملون مع هذه الإصابات الحرجة؟نعمل بمبدأ المفاضلة بين الجرحى. ننقذ من نعتقد أن فرصته في الحياة أكبر، لأن غرف العمليات قليلة. الحالات الصعبة والخطيرة نتركها، لأننا لا نستطيع إنقاذها. كثير من الضحايا كان بالإمكان إنقاذ حياتهم لو توفرت الأدوات الطبية والأدوية وغرف العمليات.
عندما نستقبل خمسين أو مئة إصابة دفعة واحدة، ننقذ ما يمكن إنقاذه، لكن كثيرًا من الأرواح تضيع بسبب هذا الشح الكبير. نعمل على مدار الساعة، ونتمنى لو أن اليوم فيه ساعات أكثر، لكن الإصابات تتدفق بلا توقف.
ذكرتم أن هناك أزمة في وحدات الدم.. ما الكمية المطلوبة يوميًا مقارنة بما يتوافر؟نحتاج يوميًا إلى 350 وحدة دم للجرحى والمرضى يوميًا، لكن المتوافر قليل جدًا ولا يفي بالحاجة. حتى عندما نطلب من المواطنين التبرع، نجد أن معظمهم يعانون من سوء التغذية وفقر الدم. أطلقنا نداء استغاثة للعالم لتوفير وحدات دم لإنقاذ الأرواح. كثير من المرضى يحتاجون كميات كبيرة بسبب النزيف الشديد، لكننا لا نجد ما يلزم.
كيف تتعاملون مع امتلاء غرف العناية المركزة وثلاجات الموتى؟غرف العناية المركزة محدودة جدًا. نفقد الجرحى الذين كان يمكن إنقاذهم لعدم وجود أسرّة. هذا الأمر يمثل تحديًا نفسيًا قاسيًا على الأطباء: أن ترى مريضًا يمكن إنقاذه لكنك تتركه يموت لعدم توفر الإمكانيات.
ما حجم الخسائر البشرية المتوقعة إذا استمر الوضع الحالي يومًا إضافيًا؟كلما تقدم الاحتلال أكثر داخل مدينة غزة، سيكون الضحايا بالآلاف وربما عشرات الآلاف، خصوصًا إذا خرجت المستشفيات عن الخدمة. غزة مدينة مكتظة تضم 800 ألف نسمة، وإذا تعطلت المستشفيات، سيجد المرضى والجرحى أنفسهم في الشوارع بلا رعاية. وستمتلئ الشوارع والطرقات بالشهداء.
كيف يظهر تفشي الأمراض وسوء التغذية على الحالات الوافدة إلى الشفاء؟الوضع الصحي في غزة الآن في أسوأ حالاته. هناك انتشار للأمراض الجلدية والمعوية والتنفسية. المرضى المزمنون لا يجدون علاجًا. مراكز صحية عديدة أغلقت مثل مركز الشيخ رضوان وشهداء الشاطئ والصبرة. المستشفيات مثقلة وغير قادرة على التشخيص، إذ لا تتوافر مختبرات للفحوص. الوضع كارثي: من لم يمت بالقصف مات بالجوع، ومن لم يمت بالقصف مات بالمرض والجوع.
هل ما زال مجمع الشفاء قادرًا على تقديم الحد الأدنى من الخدمات؟نقوم بأقل من الحد الأدنى. قبل الحرب كان لدينا 45 غرفة عناية مركزة في مجمع الشفاء الطبي، الآن لدينا فقط 12 سريرًا. مستشفيي الإندونيسي والمعمداني توقفا، ولم يبق إلا الشفاء. لا أجهزة ولا أوكسجين ولا تنفس صناعي. هذا يؤدي إلى استشهاد جرحى كان بالإمكان إنقاذهم.
الاحتلال يستهدف المنظومة الصحية.. ما الشواهد على ذلك؟جيش الاحتلال قام بقصف مستشفى عبد العزيز الرنتيسي التخصصي للأطفال، وهو مستشفى المستشفى الرئيسي للأطفال في مدينة غزة، الوحيد الذي يضم حضانة وغرف عناية للأطفال. أيضًا أغلقوا عيادة الشيخ رضوان وأكثر من مركز صحي في أحياء: الصبرة، الشيخ رضوان، الشاطئ. الاحتلال ماضٍ في تدمير المنظومة الصحية وإخراجها عن الخدمة، وهذا له تداعيات خطيرة.
كيف تنظرون إلى وجود أكثر من 800 ألف مدني عالقين غرب غزة؟نحن مستعدون نظريًا، لكن لن نستطيع استيعاب هذه الأعداد الكبيرة. قدراتنا السريرية والاستيعابية محدودة، ومع غياب الأدوية والفحوصات، يصبح العلاج مستحيلًا.
مهما استعددنا ومهما عملنا في ظل عدم وجود الأدوية كيف سنعالج المريض. المريض دون دواء لا يمكن علاجه وبدون فحوصات لا يمكن أيضًا علاجه.
هذا كل ينعكس قطعا على حياة الجرحى والمرضى. نحن موجودون على مدار الساعة نعمل لكن بأقل من الحد الأدنى، لعدم وجود الإمكانيات اللازمة للإنقاذ.
هل وجدتم تجاوبًا من المنظمات الدولية؟نحن على تواصل معهم، لكن الاحتلال يمنع دخول مئات الشاحنات الطبية العالقة عند معبر رفح. المنظمات مكبلة كما نحن مكبلون، والاحتلال لا يعترف بأي قوانين دولية أو إنسانية.
ما رسالتكم المباشرة للعالم اليوم؟إذا بقي في هذا العالم من أحرار، نقول لهم كفى. 65 ألف شهيد و160 ألف جريح ألا تكفي لوقف الإبادة الجماعية؟ نريد فتح المعابر فورًا لإدخال المستلزمات والأدوية والغذاء، نريد حماية المستشفيات والطواقم، ونريد ممرات آمنة لوصول المرضى.
هذا ما نريده الآن بشكل عاجل وإلا ستكون الكارثة. وربما حلت الكارثة ونحن الآن في عين هذه الكارثة.
ما حجم الضرر الذي لحق بمجمع الشفاء نتيجة القصف والحصار؟الاحتلال دمر المجمع بالكامل في أبريل 2024. رممنا بعض الأقسام بجهودنا، واستعدنا 270 سريرًا و12 سرير عناية وقسم الطوارئ، لكن هذه الأعداد لا تكفي. نعمل بأقل الإمكانيات، والوضع يفوق قدرتنا.
