محمود شقير: فلسطين في أمسِّ الحاجة إلى كتب السيرة الذاتية
*القدس تلازمني وتعيش في داخلي لكني أراها الآن متروكة لمصيرها على نحو فادح
*العدو أقلية تزداد عزلة عن شعوب العالم كلما أمعن في قتل نسائنا وأطفالنا
*الاحتلال يمعن في هدم بيوت المقدسيين وتغيير مشهدها العمراني الأصيل
*أنصح الكتَّاب الفلسطينيين الشباب أن يفتحوا عقولهم على كل جديد في الثقافة الإنسانية
أخيراً أتم الكاتب الفلسطيني محمود شقير ثلاثية سيرته الذاتية حيث أصدر الجزء الثالث منها بعنوان "هامش أخير"، بعد جزئيها الأول والثاني "تلك الأزمنة" و"تلك الأمكنة". يواصل شقير كتابة حياته بنفس الجرأة والصدق ويواجه ذاته بكل عيوبه، وينسب الفضل في مشواره الممتد لأساتذة وأصدقاء كانوا كالسحاب منحه المطر في أوقات العطش، وبالطبع تحضر القدس، مدينته الأثيرة، بكثافة إذ صقلت روحه وأكسبته ملامحه.
ولد شقير عام 1941، وأصدر حتى الآن خمسة وثمانين كتاباً، تُرجمت بعضها إلى 12 لغة أبرزها الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. حصل على عدة جوائز مهمة، من بينها جائزة محمود درويش للحرية والإبداع عام 2011، جائزة القدس للثقافة والإبداع 2015، جائزة دولة فلسطين في الآداب 2019، جائزة الشرف من اتحاد الكتاب الأتراك 2023، وجائزة فلسطين العالمية للآداب 2023. هنا حوار معه حول سيرته الذاتية.
لماذا سميت الجزء الثالث من السيرة "هامش أخير"؟
سميته "هامش أخير" لأنني قلت الأغلب الأعم من سيرة حياتي في الجزء الأول "تلك الأمكنة" وفي الجزء الثاني "تلك الأزمنة". غير أن الهامش لا يقل أهمية عن المتن، وما أذكره فيه له أهميته وله قيمته وجدواه.
أما لماذا الأخير، فأظن أنني وقد شارف عمري على النهاية أو ما هو قريب منها، لن أضيف إلى هذا الهامش الأخير أي إضافات. وبذلك أكون قد أنجزت سيرة ذاتية في ثلاثة أجزاء، وهذا يكفي.
كيف يمكن لقيم الحق والخير والجمال أن تغير من الواقع الذي يهيمن عليه عدو ليس لديه ذرة إنسانية واحدة؟
قيم الحق والخير والجمال باقية على مر الأزمنة، وهي تعني مليارات البشر على هذا الكوكب، أما العدو فهو أقلية تزداد عزلة عن شعوب العالم كلما أمعن في قتل نسائنا وأطفالنا، وكلما تمادى في حرب الإبادة الوحشية.
من هنا تبدو المعادلة واضحة ونتائجها أوضح، لكن هذا لا يعني الركون إلى الفعل البطيء للقيم، ولا بد من إجراءات فعلية سياسية واقتصادية وثقافية وعلى كل صعيد تمارسها فعلاً لا قولاً كل القوى المؤمنة بالعدل والسلام والحق والخير والجمال لردع العدوان، وفي طليعة هذه القوى الدول العربية والإسلامية المعنية بالقضية الفلسطينية، وبحق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير والاستقلال.
لماذا لم تضع مزيداً من التفاصيل حول القدس ووضعها الحضاري قبل النكبة؟
تحدثت عن القدس قبل النكبة في كتابي "ظل آخر للمدينة" الصادر عام 1998، وهو كتاب سيرة للقدس تحديداً، حيث وصفت علاقتي بها منذ كنت طفلاً يدخلها لأول مرة عام 1946 وكان عمري آنذاك خمس سنوات. دخلتها بصحبة أبي وكنا قادمين إليها من بيتنا في جبل المكبر الذي يبعد عن مركز المدينة سبعة كيلومترات، وقد وصفت كل شيء وقعت عليه عيناي في المدينة.
وتحدثت عن القدس في روايتي "فرس العائلة" ووصفت أسواقها وطبيعة الحياة فيها في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين من خلال الراوي العليم الذي هو قناع المؤلف، ومن خلال شخوص الرواية الذين كانوا يزورون المدينة في أيام الجمع قادمين إليها من برية القدس لأداء الصلاة في المسجد الأقصى، وفي غير أيام الجمع لبيع منتوجاتهم من حليب وأجبان ولحوم في أسواق المدينة.
كيف ترى القدس في أحلام يقظتك؟
هذه الأيام أراها متروكة لمصيرها على نحو فادح. كنت في عام 2010 أصدرت كتاباً قصصياً يصف حالها عنوانه "القدس وحدها هناك". اليوم وبرغم التظاهرات الصاخبة المستمرة التي ينظمها متضامنون عرب ومسلمون وأجانب في مختلف مدن هذا العالم تأييداً لحرية فلسطين ودعماً لحرية القدس، إلا أن ما يدعو إلى القلق الشديد هو تجاهل الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس ترامب للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وانحيازها وانحياز ترامب نفسه بشكل كلي إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي.
تقوم سلطات الاحتلال بشكل يومي بتطويق المدينة من كل الجهات وبعزلها عن محيطها العربي الفلسطيني، وتمعن في هدم بيوت المقدسيين وفي تشويه المناهج المدرسية في مدارس المدينة، وفي تغيير مشهدها العمراني الأصيل، والتطاول على مقدساتها الإسلامية والمسيحية، وهذه كله مرفوض لكنه مدعاة للقلق.
ماذا يقدم فن السيرة الذاتية للكاتب؟ وهل حقق لك المتعة أكثر من الرواية باعتبار أنك تكتب حياتك؟
أظن أن فن السيرة الذاتية يكتسب أهمية فائقة في حياة الكاتب لأنه يجسد تجربته بشكل شمولي، ويلقي أضواء كاشفة على مصادر إبداعه، ويفسر بعض أجواء قصصه ورواياته.
وبالنسبة لنا نحن الفلسطينيين فإن كتب السيرة الذاتية والغيرية والمذكرات واليوميات تكتسب أهمية قصوى في وجه الإدعاءات الباطلة التي يطلقها المحتلون الإسرائيليون حول إنكار وجودنا التاريخي فوق أرض وطننا، ومحاولات شطبنا ومحونا وإلغائنا وتقزيم تاريخنا واستبداله بتاريخ مزور تنتحله الحركة الصهيونية عن وجود مفترض ممتد لها في فلسطين.
هنا وإزاء ذلك يصبح للسيرة بمختلف تجلياتها حضور مهم لتثبيت حضورنا لأن السيرة تستند إلى الوقائع الحقيقية وإلى الوجود الفعلي فيما تجنح الرواية، وهذا حقها، إلى الخيال، مع وجود حقائق تنطلق منها الرواية وتعود إليها في كل الأحوال.
بالنسبة لي، تروقني كتابة السيرة ليس فقط لأنني أجسِّد فيها تفاصيل حياتي ومجمل تجاربي في الحياة، بل كذلك لأن فيها تجسيداً لحضوري وحضور شعبي الفلسطيني فوق أرض الآباء والأجداد، وفيها الرد الأكيد على من ينكرون علينا وجودنا في بلادنا وشرعية هذا الوجود المتجذر المكين.
لماذا السيرة فن خجول في العالم العربي؟ هل لأن الثقافة العربية ضد البوح والتعري؟
في أزمنة سابقة، في زمن ازدهار الدولة العباسية كانت الثقافة العربية الإسلامية أكثر انفتاحاً مما هي عليه الحال اليوم. الآن، ربما كان لطبيعة مجتمعاتنا العربية المحافظة ومستويات حضور الديمقراطية وتجذر الرأي والرأي الآخر فيها علاقة بذلك.
غير أن المهمات الوطنية والسياسية والاجتماعية الملقاة على عاتق السيرة في مجتمعاتنا العربية بشكل عام وفي المجتمع الفلسطيني المكبل بقيود الاحتلال الإسرائيلي بشكل خاص تلعب دوراً بارزاً في تحديد ملامح السيرة المدونة في كتاب، وتحدد وجهتها الفكرية وتجعلها أقرب إلى الالتزام بالأبعاد الأخلاقية المنضبطة لكي تكون مقبولة من القراء وقادرة على التأثير فيهم.
وعلى سبيل المثال، لو قام كاتب فلسطيني بالعمل على مثال الكاتب المغربي محمد شكري وأنتج سيرة شبيهة بـ"الخبز الحافي"، ونشرها في القدس وفي بقية مدننا المبتلاة باحتلال لا يرحم، فأي حضور سيكون لمثل هذه السيرة في حياة الشعب الفلسطيني؟
أظن أن قطاعات واسعة من الشعب لن تقبل مثل هذه السيرة ولن تجد فيها ما يعكس همومها ومعاناتها.
تعددت أسفارك إلى بيروت ودمشق، والجزائر، وبلغاريا، وإسطنبول، وبراغ.. ما المدينة التي تعيش فيك ولماذا؟
مع حبي وتقدير لكل المدن التي زرتها في هذا العالم أو أقمت فيها لفترات تقصر أو تطول من جراء إقدام سلطات الاحتلال الإسرائيلي على إبعادي من فلسطين مدة ثماني عشرة سنة (من1975 إلى 1993 )، فإن القدس هي المدينة التي تلازمني وتعيش في داخلي باعتبارها جزءاً مني واعتباري جزءاً منها.
إنها المدينة الأولى التي تفتحت عليها عيناي. عرفتها حين كنت طفلاً، وهي المدينة التي بهرتني بجمالها وبكثرة الناس من رجال ونساء في أسواقها، وبكثرة السلع والألعاب والدمى والمأكولات والحلويات.
وهي المدينة التي تعلمت في مدرستها الثانوية السياسة واستمعت إلى وجهات نظر مختلفة يمثلها أساتذة وطلاب، وفيها شاهدت التظاهرات الصاخبة ضد الأحلاف الاستعمارية بمشاركة من طلاب المدارس والطالبات، وبقية فئات الشعب من معلمين ومثقفين وعمال وحرفيين وتجار.
فيها ومن مكتباتها اشتريت أول كتاب أدبي وتعرفت إلى الثقافة وإلى فنون القصة والرواية والشعر، وفيها تعرفت إلى أول حب حين أعجبت بفتاة جميلة في إحدى مدارس المدينة.
وأما أكثر شيء أثر في حياتي وكان للقدس فضل كبير فيه، فهو وجود مجلة ثقافية في المدينة هي "الأفق الجديد" (1961 -1966) التي نشرت أولى قصصي فيها عام 1962، ثم توالى نشر القصص وأصبحت بفضل هذه المجلة التي رعت خطاي كاتباً مثابراً على الكتابة وله كل هذه المؤلفات التي زادت عن الثمانين كتاباً، علاوة على مسلسلات للتلفزيون ونصوص مسرحية للكبار وللأطفال.
وصلت إلى الثمانين فهل تنظر خلفك برضا؟
أحياناً أنظر برضا حين أرى أنني استثمرت وقتي بشكل جيد في السنوات الخمس والعشرين المنصرمة لجهة التفرغ للكتابة والإنجاز المثابر الذي لم يؤجل عمل اليوم إلى الغد.
ولا أشعر بالرضا في أحيان أخرى حين أتذكر أنني لم أصاحب الكتاب غير المدرسي من سن مبكرة. ربما لم يكن الذنب ذنبي، لو توفرت لي الكتب من خارج المنهج المدرسي لأقبلت عليها بكل شغف. لكن تلك الكتب لم تتوفر في البيت، لأن أمي لم تكن تقرأ ولم تكن تكتب بفعل الظروف القاسية التي عاشتها في طفولتها، وحيث لم تكن هناك مدرسة في منطقة سكنها في برية القدس.
ولم يكن أبي قد تعلم سوى سنتين في إحدى مدارس القدس، ولم يستمر في التحصيل العلمي، بل إنه غادر المدرسة التي كانت توفر له سكناً داخلياً وعاد إلى أهله في البرية، وحين أصبح شاباً لم يكن يفكر باقتناء الكتب وقراءتها، لكنه كان يشتري الجريدة اليومية كلما ذهب لأداء صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، وكنت أحاول قراءة الجريدة بعد أن يفرغ أبي من قراءتها، إلا أن قراءة الجريدة لم تكن تغني عن قراءة الكتاب.
أما المدرسة فقد وفرت لي كتاباً مصوراً مرة واحدة، ولم يكرر المعلم المشرف على المكتبة تلك المبادرة المدهشة، بل إنه أبقى الكتب محشورة داخل الخزائن المقفلة.
ولم أتعرف على المطالعة وعلى قراءة القصص والروايات إلا حين بلغت السادسة عشرة من العمر، وكان ذلك وقتاً متأخراً من وجهة نظري.
ما رسالتك إلى الكتاب الفلسطينيين الجدد؟
أن يبتعدوا عن الغرور، وألا يتعجلوا نشر الكتاب الأول إلا بعد التمكن من اللغة، وأنصحهم أن يطلعوا على التراث العربي الإسلامي، وأن يفتحوا عقولهم على كل جديد في الفكر وفي الثقافة الإنسانية، وأن تكون فلسطين وحقها في الحرية والسلام من الثوابت في حياتهم.
