من المقاصة للأسواق المشتعلة.. أزمة سيولة خانقة في غزة
في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة، يجلس الموظف النازح سامي أبو جابر أمام هاتفه المحمول، محاولًا أن يحوّل راتبًا متآكلًا إلى فتات نقدي يكفي قوت عائلته. يقول: إن كل شيء بات يبدأ بتطبيق مصرفي وينتهي بين يدي تاجر عملة: «أرسل حوالة مالية عبر التطبيق، لكنني حين أذهب لتحويلها إلى كاش، أجد أنني أخسر ما يقارب نصف قيمتها». يشرح أن تحويل مبلغ ألف شيكل، أي ما يعادل 300 دولار، قد يكلّفه نسبة اقتطاع تصل إلى 30% وأحيانًا 50%، بحيث لا يصل إلى يده سوى بضع مئات لا تكفي ليومين.
ومع دخوله سوق مدينة خان يونس، تبدأ المأساة الجديدة. كيلو السكر الذي كان يباع قبل الحرب بأقل من دولار، صار اليوم يتجاوز 9 دولارات. كيلو البندورة، التي لطالما كانت «طعام الفقراء»، بلغ 80 شيكلًا (18 دولارًا تقريبًا)، فيما اختفت الدواجن واللحوم كليًا منذ شهور طويلة. يتنهد سامي قائلا: «كأن الحصار يطاردنا حتى في رغيف الخبز».
ويضيف لـ«عُمان»: إنّ الأسعار ليست وحدها المشكلة، بل حتى النقود التي تصل إلى يديه متهالكة، أوراق قديمة متسخة رفض بعض الباعة التعامل بها. البنوك مغلقة، وماكينات الصراف الآلي خارج الخدمة منذ شهور، لتبقى السيولة الورقية المتآكلة عنوانًا يوميًا للأزمة.
في كل مرة يمد يده للبائع، يدرك أنّ الرحلة من التطبيق إلى الكاش ليست سوى رحلة في متاهة، حيث تتآكل النقود بفعل السوق السوداء وتضخم الأسعار، ثم تهترئ الأوراق النقدية نفسها قبل أن تشتري بها شيئًا. يقول: «هذه ليست حياة، إنها استنزاف يومي».
قصته تختزل حكاية عشرات آلاف الموظفين والعاملين الذين باتوا عالقين بين مطرقة الحصار وسندان حرمان السلطة الفلسطينية من أموال المقاصة التي كانت تُدخل سيولة إلى السوق. أزمة السيولة في غزة تحولت إلى معركة بقاء حقيقية، تبدأ من شاشة الهاتف ولا تنتهي عند أبواب السوق.
أموال المقاصة.. نزيف مستمر
تعتمد السلطة الفلسطينية بشكل أساسي على أموال المقاصة، وهي عائدات الضرائب التي تجبيها سلطات الاحتلال نيابة عنها مقابل البضائع المستوردة، ثم تحولها شهريًا بعد اقتطاع جزء منها. لكن خلال الأشهر الماضية، زادت إسرائيل من اقتطاعاتها، لتستولي على مبالغ ضخمة تُحوَّل لدعم المستوطنات تحت ذرائع مختلفة.
بحسب تقديرات رسمية، تتجاوز قيمة أموال المقاصة التي يحتجزها الاحتلال حاليًا مليار دولار سنويًا، فيما بلغت الاقتطاعات الموجهة للمستوطنين خلال العام الماضي فقط أكثر من 3 مليارات شيكل. هذا النزيف المستمر جعل السلطة عاجزة عن دفع رواتب موظفيها كاملة، خاصة في غزة، حيث زاد الأمر سوءًا مع الحصار المشدد وإغلاق البنوك.
في السابق، كانت هذه الأموال تشكل شريان حياة للاقتصاد الفلسطيني، وتساهم في توفير السيولة التي تُصرف كرواتب وتُضخ في الأسواق. لكن مع وقفها، وجد الغزيون أنفسهم بلا نقد يواجهون به غلاءً فاحشًا، يضاعفه شح السلع وإغلاق المعابر.
تحولت الأزمة من قضية مالية إلى أزمة اجتماعية واقتصادية شاملة. الرواتب المقتطعة لم تعد تكفي إلا لجزء من الاحتياجات الأساسية، فيما أُجبر كثيرون على الاستدانة أو بيع مقتنياتهم، في وقت لا يلوح فيه أي حل قريب.
النقود ورقية بلا قيمة
محمد عياد، موظف في إحدى الوزارات، يروي تجربته وهو يقيم مع أسرته في خيمة بمنطقة خان يونس بعد تهجيرهم من شمال القطاع. يقول: إنّه ينتظر راتبه شهريًا كغريق ينتظر قشة، لكنه حين يستلمه يجد نفسه أمام طريق مسدود.
يقول لـ«عُمان»: «أضطر إلى الذهاب إلى تاجر عملة لتحويل الحوالة إلى كاش. النسبة عالية جدًا، وفي بعض المرات أخذ التاجر نصف المبلغ. أسير إلى السوق وأنا أحمل النقود بيدي، لكنني حين أبدأ الشراء، أشعر وكأنني بلا مال».
يضيف أنّ الخضار باتت رفاهية نادرة، وأن الخبز وحده يكلف نصف ما يملك. أما بقية الاحتياجات، كالمواصلات أو الحاجات المدرسية لأطفاله، فهي أحلام مؤجلة. «أشعر أحيانًا أن النقود ورقية بلا قيمة، وأن العمل شهريًا لا يجلب سوى الديون».
محمد يرى أنّ الأزمة ليست فقط في السيولة، بل في غياب الأمل. يقول: «لو علمت أن الأزمة ستنتهي بعد شهرين أو ثلاثة لصبرت، لكننا ندفع ثمنًا يوميًا دون أفق».
حتى النقود أصبحت سلعة
في مخيم النصيرات وسط القطاع، تجلس أم خالد النجار، وهي أرملة تعيل خمسة أطفال، تحاول أن تدبر حياتها من حوالة يرسلها ابنها من الخارج. تقول: إنّ المبلغ الذي يصلها يفقد قيمته فور تحويله إلى كاش: «أرسل لي ابني 500 دولار، لم أحصل منها إلا على 300 بعد خصم التاجر».
مع هذه المبالغ المتآكلة، تقف أمام أبواب المحلات لتشتري ما يسد رمق أطفالها. لكنها تصطدم بأسعار فلكية. «كيس أرز صغير تجاوز 100 شيكل، وحليب الأطفال اختفى من السوق. كل يوم أذهب وأعود خالية اليدين».
وتشير لـ«عُمان» إلى أنّ بعض المحلات باتت ترفض الأوراق النقدية الصغيرة المهترئة، فتضطر إلى تبديلها عند تجار العملة مقابل عمولة إضافية: «حتى النقود نفسها أصبحت سلعة».
تؤكد أم خالد أنّها تشعر وكأن الاحتلال لا يحاصر الغذاء فقط، بل يحاصر النقود والأمل: «كأنهم يريدون أن يسرقوا منا القدرة على التنفس».
السيولة شريان الاقتصاد المختنق
الصحفي الاقتصادي ماجد عبدالعال يرى أنّ أزمة السيولة الحالية هي نتيجة مباشرة لحرمان السلطة الفلسطينية من أموال المقاصة. يقول: «منع الاحتلال تحويل هذه الأموال حرم السلطة من توفير أبسط المقومات، وفي مقدمتها رواتب الموظفين».
ويضيف لـ«عُمان»: إنّ الإيرادات المحلية للسلطة من الضرائب الداخلية لا تكفي لسد العجز. ومع استمرار الحرب في غزة، تفاقمت الأزمة أكثر، بحيث لم يعد الموظفون قادرين على تأمين قوت يومهم.
يشير حفني إلى أنّ الحصار المستمر منذ سنوات ضاعف من هذه المعاناة. فالموظفون والقطاع العام عجزوا عن توفير الحاجات الأساسية، فيما أدت الأسعار المرتفعة إلى حرمان كثير من العائلات من ضروريات الحياة.
ويرى أن حرمان الموظفين من رواتبهم انعكس بشكل مباشر على قدراتهم الاقتصادية، بدءًا من الطعام والشراب، وصولًا إلى التنقل والسكن. «السيولة النقدية هي شريان الاقتصاد، وعندما تُقطع، يختنق الجميع».
حصار المال قبل الغذاء
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي الفلسطيني نصر عبد الكريم: إنّ أزمة السيولة النقدية في غزة لم تعد مجرد بند مالي في تقارير البنوك أو نشرات الأخبار، بل تحوّلت إلى «جرح مفتوح في تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين». يوضح أنّ التحويلات المالية التي تصل عبر التطبيقات تنكمش أمام أعين أصحابها حين تمر عبر تجار العملة، لتتآكل قيمتها وتضيع نصفها في الطريق، فيما تتضاعف الأسعار بحيث يصبح الطعام نفسه رفاهية بعيدة المنال.
ويشير عبد الكريم لـ«عُمان» إلى أنّ أوراق النقد المتداولة في القطاع أصبحت متهالكة، يرفضها بعض التجار لصعوبة التعامل بها، في ظل غياب البنوك والصرافات الآلية. «الاحتلال، باحتجازه أموال المقاصة وتوجيهها للمستوطنين، لا يسرق النقود فقط، بل يسلب الفلسطينيين قدرتهم على العيش بكرامة»، يقول عبد الكريم.
ويتابع أنّ المشكلة الحقيقية تكمن في غياب أي حلول عاجلة، ما يجعل السيولة النقدية في غزة «محاصرة مثل الناس، أسيرة حرب لا ترحم». ويرى أنّ ما يحدث «ليس مجرد أزمة اقتصادية ظرفية، بل سياسة حصار متعمدة تخنق الفلسطينيين من كل الجهات».
ويختم بالقول: «الأزمة لا تقاس بالأرقام وحدها، بل بدموع أم تقف عاجزة أمام رفوف خالية، وموظف يحدق في ورقة نقدية مهترئة لا تشتري له شيئًا. ما يجري هو أزمة وجود، وليست أزمة سيولة فقط».
