ثقافة

ذكريات مع مجلة عشتار

01 أكتوبر 2025
01 أكتوبر 2025

كتبنا في عدد سابق عن مجلة الكاتب ودورها في إنعاش الثقافة الفلسطينية بقيمها وثوابتها الوطنية أواسط الثمانينيات حتى أوائل التسعينيات، توقفت مجلة الكاتب كما تتوقف كل الأشياء الجميلة في عالمنا، أدت دورها بأمانة وحب واقتدار، وحفرت بصمة إعلامية ثقافية يجمع على خصوصيتها المعظم من مثقفي فلسطين وإعلامييها، ورسخت خطابا ثقافيا منتميا للوطن وهمومه، ومقاوما لمخططات الاحتلال، كان ثمة إجماع لدى المثقفين والأدباء أن الأرض الثقافية الصلبة التي مشى عليها الجيل الشاب من الأدباء هي أساس الخطاب الحداثي الفلسطيني في النص والحياة. لم يكن النص الفلسطيني الحديث بتقنياته ومضامينه المتحللة من الشروط القديمة للكتابة أن يحدث لولا المناخ الثقافي السابق الذي مثلته أروع تمثيل مجلة الكاتب، وهنا أود أن أشير هنا الى دور عودة الشعراء والروائيين والقصاصين والمسرحيين والمثقفين الفلسطينيين عامة بنصوصهم الحديثة وتجارب حياتهم الحرة ورؤاهم الثقافية العميقة واحتكاكهم المعرفي بالنص الأوروبي الحديث قراءة ومعايشة وحياة شخصية، إلى فلسطين حيث أثروا بالنص الفلسطيني المحلي كما كان يسمى.

بعد مرحلة أوسلوا وبشكل مفاجئ وكأن الجيل الشاب كان ينتظر فرصة الضغط على زر الانفجار الثقافي لينشر خطابه الثوري في اللغة والمضمون والحياة نفسها، سنوات أوسلو من عام 93 وحتى عام 2000 كانت هادئة سياسيا، شعر الناس (لاحقا اكتشفوا وهم ذلك) أن الصراع انتهى، وأن فلسطين عادت حرة، فقد عاد الآلاف من الفلسطينيين من المنافي وصار عندنا جيش وطني وجواز سفر ووزارات وأن الأوان آن ليعيش الفلسطيني حياته الطبيعية ويكتب نصه الخاص البعيد عن المضامين المكررة، والأفق الثقافي الجاف، هاج النص الفلسطيني وماج، صار مفتوح النهايات بعد أن كان مقفلا بالشهداء والتفاؤل الثوري والثقة الدينية، صارت اللغة مجنونة وغريبة بعبارات جديدة، وإيقاع لغوي حر وفضاء بلا سقف، دخلت الحياة الشخصية في النص والتفاصيل التي تبدو غير مهمة، وهبطت فوق النص السريالية والكوابيس والرؤية العدمية الوجودية والأحلام الصريحة والعبث الجميل. كل ذلك حدث في صفحات مجلة عشتار التي صدرت في غزة أوائل التسعينيات، رأس تحريرها الشاعر عثمان حسين، وكانت مكونة من هيئة تحرير: اعتماد مهنا وفايز سرساوي وتيسير محسن، أما مستشاروها فكانوا: الشاعر خالد جمعة والقاص رجب أبو سرية والشاعر الراحل محمد حسين القاضي.

كيف أنسى مجلة عشتار،؟ كان هذا أوائل التسعينيات. كيف لا تخطر عشتار على بالي وأنا أعيش الآن في زمن غير عشتاري، زمن النص الفيسبوكي حيث يمكن لأي شخص أن يكتب لك تحته بعد ثوان: ما أسخف نصك أو ما أعظمه. (كم هم أعداء الوقت!) في الزمن العشتاري المسافة بين نشر النص وبين تلقينا ردودا عليه عبر المقالات النقدية كانت طويلة، كنا نمضيها في الأحلام والتأمل وانتظار الآراء، كنا نحب الوقت، وكانت جملة إعجاب عابرة من شاب في الطريق لا نعرفه (قرأت لك نصا جميلا في عشتار) كفيلة بجعلنا سعداء لأسبوع واكثر.كنا صغارا نحاول أن نختلف ونعشق المدن بطريقتنا، نكتب الشعر والقصص ونحب رام الله والحياة، بأسلوب جديد. كنا ننتظر فقد كان لدينا وقت.كان عثمان شاعرا مكرسا يفوقنا شهرة وخبرة، كان يزور رام الله قادما من غزة كلما صدر عدد جديد فنحتفل معا في (مطعم انكل سام) ونحكي لبعضنا عن آرائنا في نصوص بعضنا البعض.أجمل ما في عشتار هو أنها كانت تعرفنا على نصوص كتاب جدد لا نعرفهم من فلسطين ٤٨ أو من المنافي. كان عثمان يتلقى آلاف النصوص عبر صناديق البريد في غزة، وكان مع المحررين يغربل النصوص ويختار منها ما يوائم عالم عشتار القائم على النص الجديد الخارق للعادي، والذاهب لمناطق جديدة في الكتابة.نشرت شخصيا في عشتار تحديدا على الصفحة الأخيرة كثيرا من النصوص، ما زلت احتفظ بها معتزا بتجربة نشر لا تنسى، طورت أسلوبي وعمقت نظرتي للحياة وعرفتني على عديد من الأصحاب الكتاب الذين ما زلت احتفظ بصداقتهم.لماذا اشتاق إلى عشتار؟؟ لأنني أحب الوقت ولأن عشتار الفلسطينية هي رمز الخصوبة الثقافية والربيع المعرفي الحديث.

توقفت عشتار عن الحياة هي الأخرى، فالحروب في بلادنا ضد الحياة وضد الثقافة وضد الحب..