ثقافة

الذاكرة العمانية بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية

30 سبتمبر 2025
لصياغة تاريخ وطني شامل ومتوازن
30 سبتمبر 2025

استطلاع ـ فيصل بن سعيد العلوي

د.سليم الهنائي: المناهج الجامعية لا تكفي للتعامل مع الرواية الشفوية إلا إذا اقترنت بالتدريب والنقد

د.حبيب الهادي: الوثيقة لا تكفي وحدها والرواية الشفوية شريك لا غنى عنه لبناء تاريخ متوازن

نجلاء المانعية: الرواية الشفوية تحمل قيمة إنسانية تكشف تفاصيل الحياة التي تغفلها الوثيقة

نبيل العبري: المزج بين الوثيقة والرواية الشفوية ضرورة لصياغة تاريخ متوازن

أحمد الشبلي: الرواية الشفوية أداة أصيلة لكنها تحتاج إلى نقد ومقارنة مع المصادر المكتوبة

تثير العلاقة بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية إشكالية جوهرية في كتابة التاريخ؛ فهي تضع الباحث أمام سؤال المنهج والذاكرة في آن واحد. فالوثيقة بما تحمله من دقة وطابع رسمي تتيح تثبيت الأحداث والقرارات، لكنها قد تغفل تفاصيل الحياة اليومية وتجارب الناس العاديين. أما الرواية الشفوية فهي ذاكرة حية تكشف المشاعر والعادات والحكايات الشعبية التي لم تجد طريقها إلى التدوين، ومن هنا يبرز السؤال: كيف يمكن الجمع بين المصدرين لصياغة تاريخ وطني متوازن لا يقتصر على الرسمي المدون، ولا يكتفي بما يحفظه الرواة؟ في هذا الاستطلاع يشارك عدد من الأكاديميين والباحثين بآرائهم حول هذه الإشكالية، وقيمة المزاوجة بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية في حفظ الذاكرة العمانية.

بداية يرى الدكتور سليم بن محمد الهنائي أستاذ مساعد التربية والدراسات الإنسانية بكلية العلوم والآداب أن الرواية الشفوية تمثل ركيزة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في الكتابة التاريخية؛ فهي لم تكن في أي وقت هامشية أو ثانوية، بل اعتمدت عليها الكثير من المؤلفات والإصدارات في سلطنة عمان وفي العالم العربي والعالم أجمع؛ إذ إن هناك موضوعات بعينها لا سبيل إلى تدوينها أو مقاربتها إلا عبر الاستماع إلى الرواة، ونقل ما يحتفظون به في ذاكرتهم سواء ارتبط ذلك بالتاريخ الاقتصادي أو الاجتماعي، أو بتاريخ التعليم والثقافة، أو حتى بتاريخ المدن والمحافظات وما يتصل بمفرداتها وتفاصيلها الدقيقة، وخاصة في الحقب التاريخية المعاصرة التي لم يوثق بعد الكثير من وقائعها كتابة بشكل كامل.

ويشير الدكتور «الهنائي» إلى أن مناهج البحث التاريخي الحديثة مثل منهج المقارنة والمنهج التحليلي قد أسهمت في توسيع آفاق الدارسين، إلا أنها في الغالب تقوم على الوثائق والمصادر المكتوبة بينما يظل التعامل مع الرواية الشفوية مسألة مختلفة تقتضي أدوات خاصة وقدرات منهجية محددة. وهنا يطرح تساؤله الجوهري حول ما إذا كانت المناهج التي تدرّس في الجامعات العمانية قادرة بالفعل على إعداد الطالب للتعامل مع هذا النوع من المصادر.

ويوضح أن الطالب في مرحلة البكالوريوس يتلقى مقررات تتضمن موضوع الرواية الشفوية، غير أن ما يدرسه لا يكفي وحده لتأهيله للتعامل مع هذا الجانب بالغ الحساسية؛ إذ إن الأمر يتطلب مهارات متنوعة لا يكتسبها الطالب إلا إذا ارتقى إلى مستويات دراسية أعلى مثل الماجستير والدكتوراه؛ حيث يدرس مناهج النقد التاريخي التي تمكّنه من تحليل المصادر المكتوبة والشفوية معا، ووضعها في سياقها التاريخي الصحيح.

ويضيف «الهنائي» أن الرواية الشفوية لا يمكن أن تؤخذ كما هي على علاتها، وإنما لا بد أن تُخضع لعملية نقد دقيقة تكشف مدى توافقها مع الروايات المعاصرة لها، ومع مجريات الأحداث التاريخية؛ بحيث تُمحص وتُغربل قبل اعتمادها كمصدر من مصادر التاريخ. وهنا تتجلى أهمية الباحث المتخصص القادر على التمييز بين ما هو موثوق وما قد يكون دخله من خيال أو من التباسات الذاكرة البشرية، لاسيما أن الراوي كثيرا ما يسترسل في حديثه عن وقائع مر عليها زمن طويل، وقد تختلط عنده تفاصيلها فيضيف أو يحذف من غير قصد.

ويؤكد الدكتور سليم بن محمد الهنائي أن المناهج الجامعية بصيغتها الحالية لا تكفي وحدها، وأن المطلوب في المرحلة الأولى من إعداد الطالب هو إتاحة التدريب العملي له؛ بحيث يجلس مع عدد من الرواة، ويستمع إليهم، ثم يمارس عملية النقد والتحليل على ما سمعه؛ ليحدد ما هو صحيح وموضوعي، وما ينبغي استبعاده، وبذلك فقط تتحول المناهج النظرية إلى ممارسة حقيقية تكسب الطالب خبرة التعامل مع الرواية الشفوية، وتجعلها جزءا من أدواته المنهجية في كتابة التاريخ.

بناء تاريخ متوازن

يرى الدكتور حبيب بن مرهون الهادي أخصائي مناهج التاريخ بوزارة التربية والتعليم أن النظر إلى العلاقة بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية يكشف عن مسارين متوازيين في كتابة التاريخ؛ فالتاريخ بشكل عام، والتاريخ العماني بشكل خاص لم يُبنَ فقط على وثائق مكتوبة، بل قام أيضا على روايات شفوية تناقلتها الألسن من جيل إلى آخر، حتى غدت جزءا من الذاكرة الجماعية والتراث المتوارث الذي لا يمكن عزله عن مسار التوثيق الرسمي.

ويؤكد أن الوثيقة المكتوبة تظل الأصل الأقوى والأثبت؛ فهي المعتمد في القضاء والمحاكم وفي معظم مجالات الحياة، ويُنظر إليها على أنها المرجع الذي يُستند إليه في تثبيت الأحداث والمعلومات والبيانات. ومع ذلك فإن الرواية الشفوية ليست أمرا يمكن الاستغناء عنه أو تجاوزه؛ فهي على الرغم مما قد يعتريها من إضافات أو نواقص أو تحيزات أو نسيان تبقى رافدا لا غنى عنه لفهم التجربة الإنسانية بكل تشابكاتها. وهنا يشير إلى أن مدارس التاريخ تختلف في موقفها من الرواية الشفوية. فبعضها لا يقيم لها وزنا معتبرا؛ بدعوى أنها قد تتضمن أساطير أو إضافات غير دقيقة بينما هناك مدارس أخرى تعترف بدورها المهم، وتتعامل معها باعتبارها مكملا أساسيا للوثيقة المكتوبة.

ويرى «الهادي» أن من الخطأ الاعتقاد بأن الوثيقة تعكس الحقيقة التاريخية الكاملة؛ فهي أيضا قد يعتريها النقص أو التحيز، لاسيما إذا كان كاتبها طرفا في الأحداث، أو غير محايد في تدوينها فضلا عن وجود أنواع من الوثائق التي لا تخضع لآليات التحقق من شهود أو إثباتات صارمة ما يجعلها عرضة للجدل حول صدقيتها. ومن هنا فإن الوثيقة لها قوتها بلا شك، لكنها ليست معصومة من الأخطاء أو النقص شأنها شأن الرواية الشفوية التي تحتاج إلى التمحيص والنقد.

ويضيف أن السير في مسارين متوازيين هو الحل الأمثل، أي: الاعتماد على الوثيقة المكتوبة من جهة، وعلى الرواية الشفوية من جهة أخرى مع إخضاع كل منهما لآليات التحقق والنقد العلمي. ففي أحيان كثيرة تكون الرواية الشفوية مدخلا لاكتشاف أحداث معينة، ثم يأتي دور الوثيقة لتأكيدها، أو نفيها، أو تدعيمها بالأدلة المكتوبة. وأحيانا أخرى تكون الوثيقة غامضة أو ناقصة، فتأتي الرواية الشفوية؛ لتكمل أبعادها، وتفسر سياقاتها. وفي كلتا الحالتين فإن العلاقة بينهما علاقة تكامل، وليست تضادا.

ويشير الدكتور الهادي إلى أن بعض الروايات الشفوية قد لا نجد لها مصدرا مكتوبا أو وثيقة مثبتة، لكن ذلك لا يعني إسقاطها بالكامل، بل يجب التعامل معها بوصفها مادة أولية تحتاج إلى النقد والمراجعة ووضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي الصحيح. فإذا أمكن مطابقتها مع مصادر مكتوبة أو نقوش أو شواهد أثرية فإنها تتحول إلى رواية دقيقة وموثوقة، أما إذا تعذّر ذلك فإنها تبقى بحاجة إلى غربلة وتحقق.

قيمة إنسانية

من جانبها تؤكد الباحثة نجلاء بنت خلفان المانعية معلمة الدراسات الاجتماعية أن توثيق التاريخ العماني يظل من أبرز المهام التي لا يمكن التهاون فيها؛ إذ إن الذاكرة الوطنية بحاجة إلى جهود متضافرة لضمان حفظها ونقلها للأجيال القادمة. وترى أن طرق التوثيق تتعدد بين الكتب التاريخية والوثائق المكتوبة بمختلف أشكالها وأدب الرحلات والرواية الشفوية، غير أن الإشكالية الجوهرية تكمن في مدى إمكانية المزج بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية بما يحقق حفظا أكثر شمولية لتاريخ عمان.

وتوضح «المانعية»: أن الوثيقة المكتوبة تقدم كما هائلا من المعلومات ذات الطابع الرسمي، وتشمل مختلف مجالات الحياة من سياسية واجتماعية واقتصادية ومعمارية وغيرها، وهو ما يجعلها مرجعا لا يمكن الاستغناء عنه أو تركه جانبا، لكنها في المقابل ترى أن الاعتماد على الرواية الشفوية لا يقل أهمية؛ لأن هذه الرواية تحمل في طياتها تفاصيل دقيقة عن التجربة الإنسانية اليومية التي قد تغيب عن الوثائق الرسمية. فهي تكشف عن أنماط الحياة الاجتماعية التي عاشها الإنسان العماني، وتضيء الجوانب الدقيقة التي تلامس معيشته اليومية وعلاقاته وقيمه.

ومن خلال أبحاثها الاجتماعية تشير «المانعية» إلى أن الرواية الشفوية تمنح الباحث مادة ذات طابع إنساني لا توفرها الوثائق المكتوبة؛ فهي لا تكتفي بسرد الوقائع، بل تقدم انفعالات الرواة ومشاعرهم، وتصور مدى بساطة الحياة في المجتمع العماني وممارساته الثقافية من حكايات شعبية متوارثة إلى عادات وقيم اجتماعية راسخة، بل إنها في بعض الأحيان تقدم وقائع وأحداثا تاريخية جديدة لم يرد لها ذكر في الوثائق؛ إما لأن تلك الوثائق لم تُعنَ بتفاصيلها، وإما لأنها ركزت على الجانب الرسمي فحسب.

وتضيف الباحثة نجلاء بنت خلفان المانعية أن هذا التباين لا يعني الاكتفاء بأحد المصدرين، بل على العكس؛ فالقيمة الكبرى تكمن في الجمع بينهما؛ إذ تُبنى الذاكرة العمانية عبر الوثيقة المكتوبة التي تمنح الإطار الرسمي والوقائع الكبرى، وعبر الرواية الشفوية التي تعطي التفاصيل الإنسانية الدقيقة، وبذلك تتكامل الصورة لتشكل تاريخا أكثر عمقا وشمولا. على أن التاريخ لا يُبنى بالاعتماد على المكتوب وحده، وإنما يتطلب التعبير والسرد الشفوي بوصفه أداة تمنح الحياة لما قد يبقى جامدا في النصوص والوثائق.

ضرورة المزج

يرى الباحث نبيل بن ماجد العبري أخصائي تقويم مادة التاريخ بتعليمية جنوب الباطنة أن الجمع بين الوثيقة المكتوبة والرواية الشفوية ليس ترفا معرفيا يمكن الاستغناء عنه، بل هو ضرورة علمية ومنهجية تفرضها طبيعة البحث التاريخي نفسه إذا ما أريد للتاريخ العماني أن يُكتب بصيغة متوازنة وشاملة. ويوضح أن الوثيقة المكتوبة تمنح الباحث دقة كبيرة في ضبط التواريخ والأحداث والقرارات الرسمية، غير أنها بطبيعتها تميل إلى تسجيل ما هو رسمي ومؤسسي ما يجعلها تغفل عن أصوات الناس العاديين وتجاربهم اليومية التي تشكل في حقيقتها مادة أساسية لفهم المجتمع.

ومن هنا تبرز أهمية الرواية الشفوية التي تفتح نافذة واسعة على المشاعر والعادات والممارسات الاجتماعية، وتتيح الاطلاع على تفاصيل الحياة الإنسانية التي لم تُعنَ الوثائق بتسجيلها؛ فهي تعكس أبعادا وجدانية وثقافية لا نجد لها أثرا في النصوص المكتوبة، إلا أن الاعتماد عليها يطرح تحديات عدة، فهي عرضة للتغيير عبر الأجيال، وقد يضيف الراوي إلى سرده شيئا من خياله أو من رؤيته الخاصة للأحداث، وهو ما يجعلها بحاجة إلى نقد ومراجعة صارمة قبل اعتمادها كمصدر من مصادر التاريخ.

وفي الوقت نفسه يلفت «العبري» إلى أن الوثيقة المكتوبة بدورها ليست بمنأى عن النقد؛ فهي أحيانا قد تعكس موقفا رسميا أو توجها سلطويا يرسم الصورة من زاوية محددة، ويغفل جوانب أخرى ما يعني أن الوثيقة أيضا لا تقدم الحقيقة الكاملة بل جانبا منها. ومن هنا فإن الموازنة بين المصدرين تتطلب وعيا نقديا من الباحث؛ بحيث يضع كل مصدر في سياقه، ويقارن بينهما، ويبحث عن نقاط الالتقاء والتكامل؛ ليقترب قدر الإمكان من الصورة الأكثر دقة وشمولا.

أداة أصيلة

يشير الباحث أحمد بن خلفان الشبلي رئيس قسم تقويم تعلم مواد العلوم الإنسانية والمهارات الفردية بوزارة التربية والتعليم إلى أن دراسة التاريخ تقوم على تنوع واسع في المصادر تبدأ بالنقوش والآثار والمخطوطات والوثائق، وتنتهي عند الرواية الشفوية التي تعد الذاكرة الجمعية لأي مجتمع. غير أن هذا المصدر ظل محل جدل كبير بين المؤرخين؛ فهناك من يعده مصدرا أصيلا لا يقل أهمية عن بقية الشواهد التاريخية، وهناك من يرى أنه يظل بحاجة دائمة إلى ما يسنده من وثائق مكتوبة أو شواهد مادية تمنحه المصداقية والرسوخ العلمي.

ويؤكد «الشبلي» أن الحالة العمانية تقدم نموذجا واضحا على القيمة البالغة للرواية الشفوية؛ فهي أسهمت في حفظ جوانب اجتماعية واقتصادية وثقافية لم تحظ بالقدر الكافي من التدوين الرسمي. فبينما انشغلت الوثائق المكتوبة في الغالب بمتابعة أعمال السلطة وأنشطتها جاءت الرواية الشفوية لتعكس خبرات الناس العاديين وتفاصيل حياتهم اليومية، وما صاحبها من مشاعر وانطباعات إلى جانب أنها حفظت ثروة لغوية، ومفردات محلية، وأمثالا شعبية، وأغاني وأهزوجات بحرية، وغيرها من عناصر الهوية الثقافية العمانية.

ويضرب «الشبلي» مثالا بارزا على ذلك بالتراث البحري؛ إذ يبين أن ارتباط العمانيين بالبحر في مجالات الصيد والغوص على اللؤلؤ ورحلات التجارة البعيدة كان عميقا ومتجذرا، ومع ذلك فإن جزءا كبيرا من هذا الموروث لم يجد طريقه إلى التدوين المنهجي، فبقيت الرواية الشفوية هي المصدر الرئيس لتوثيقه. وينسحب الأمر كذلك على مجالات أخرى لم تنل عناية كافية في السجلات المكتوبة، مثل تاريخ الحرف التقليدية، والحياة في البادية، وحركات الهجرة الداخلية. وفي المقابل يلفت الباحث أحمد بن خلفان الشبلي الانتباه إلى أن التعامل مع الرواية الشفوية يقتضي حذرا كبيرا؛ فلا يصح أن تؤخذ كما ترد على ألسنة الرواة دون غربلة، فبمرور الوقت تتعرض هذه الروايات للتغيير والإضافة والحذف، وقد يميل بعض الرواة إلى إضفاء طابع أسطوري على الشخصيات، فيصورونها بصورة بطولية مبالغ فيها. كما قد تؤثر الانتماءات القبلية أو السياسية أو المناطقية على اختيار الراوي، وانتقائه لما يرويه أو يغفل عنه؛ ولذلك فإن الرواية الشفوية على الرغم من أهميتها تظل في حاجة إلى النقد والمقارنة مع بقية المصادر المكتوبة والأثرية حتى يطمئن الباحث إلى صدقها ودقتها.