العرب والعالم

ماذا بعد الاعتراف الأوروبي بفلسطين؟

29 سبتمبر 2025
بعد تلويح نتنياهو بعقوبات خانقة
29 سبتمبر 2025

في لحظة بدت كأنها تحول تاريخي في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أعلنت كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، لتفتح الباب أمام موجة جديدة من الاعترافات المحتملة داخل القارة الأوروبية. هذه الخطوة التي رحبت بها القيادة الفلسطينية باعتبارها «انتصارًا سياسيًا ومعنويًا»، أثارت غضب الحكومة الإسرائيلية، ودَفعت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى عقد اجتماعات عاجلة مع وزرائه لمناقشة ما وصفه بـ«الرد المناسب».

اتجاه إسرائيلي لعقاب الفلسطينيين

تقول مصادر إسرائيلية: إن النقاشات الداخلية في تل أبيب تجاوزت حدود البيانات السياسية، لتتجه نحو إجراءات عقابية عملية قد تطال الشعب الفلسطيني بأسره، بدءًا من ضم أجزاء من الضفة الغربية، مرورًا بمصادرة أموال الضرائب الفلسطينية المحتجزة، وصولًا إلى منع كبار المسؤولين الفلسطينيين من السفر. هذه التهديدات تعيد إلى الأذهان سياسة «العقاب الجماعي» التي لطالما استخدمتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ضد الفلسطينيين، لكنها تبدو اليوم أكثر خطورة في ظل حكومة يمينية متطرفة تتبنى خطابًا أكثر تشددًا.

وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، المعروف بمواقفه المتطرفة، سبق أي قرار رسمي بإعلانه أنه لن يمنح البنوك الإسرائيلية ضمانات بعدم ملاحقتها إذا تعاملت مع البنوك الفلسطينية، وهو ما يعني عمليًا تعميق أزمة تكدس الشيكل في المصارف الفلسطينية وتهديد الحركة التجارية اليومية. هذا الإجراء وحده كفيل بزيادة الضغوط على الاقتصاد الفلسطيني المنهك أصلًا، ما يجعل التحرك الأوروبي أكثر إلحاحًا لردع إسرائيل.

وسط هذا المشهد، تتصاعد التساؤلات في الشارع الفلسطيني حول حجم الرد الإسرائيلي المتوقع، ومدى قدرة الدول الأوروبية على حماية اعترافها من أن يتحول إلى مجرد بيان سياسي بلا أثر عملي، في وقت يراهن فيه الفلسطينيون على أن هذه الاعترافات قد تفتح نافذة جديدة لكسر الحصار الدبلوماسي المفروض عليهم منذ عقود.

ضغط أوروبي

أمام هذه التطورات، دعت منظمة التحرير الفلسطينية الدول الأوروبية إلى المضي قدمًا في خطوات عملية تترجم الاعتراف إلى إجراءات ميدانية تُلزم إسرائيل بوقف سياساتها. واصل أبو يوسف عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة، شدد في تصريحات لـ«عُمان» على أن المطلوب ليس الاكتفاء ببيانات الدعم، بل «تفعيل آليات عملية تلزم الاحتلال أولًا بوقف حرب الإبادة ضد شعبنا، ورفض مخططات التهجير، وضمان إدخال المساعدات الإنسانية بشكل مستدام إلى قطاع غزة».

أبو يوسف أوضح أن هذه الدول مدعوة أيضًا لفتح مسار سياسي يؤدي إلى إنهاء الاحتلال والاستعمار، وضمان الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني بما في ذلك إقامة الدولة المستقلة على حدود عام 1967. وبرأيه، فإن الاعتراف وحده لا يكفي إذا لم يُرفَق بخطوات عملية مثل فرض عقوبات اقتصادية أو تعليق اتفاقيات التعاون مع إسرائيل، خاصة في ظل استمرار الحرب المفتوحة على الأرض.

ويضيف أبو يوسف أن الفلسطينيين يتطلعون إلى أن تكون هذه الاعترافات مقدمة لمرحلة جديدة من العزلة السياسية لإسرائيل، مشيرًا إلى أن الحكومة الإسرائيلية لن تتراجع ما لم تشعر بثمن حقيقي لسياساتها. كما دعا الاتحاد الأوروبي إلى تبني موقف موحد لوقف تصدير الأسلحة إلى تل أبيب وفرض حظر على المنتجات القادمة من المستوطنات غير الشرعية، باعتبار ذلك «أقل ما يمكن أن يُقدّم لحماية القانون الدولي».

ويرى القيادي الفلسطيني أن اللحظة الراهنة تمثل اختبارًا لمدى التزام أوروبا بالقيم التي تدّعي الدفاع عنها، مؤكدًا أن استمرار الصمت أو الاكتفاء بالبيانات سيُفسَّر في إسرائيل على أنه ضوء أخضر لمزيد من التصعيد ضد الفلسطينيين.

انقسام أوروبي وعزلة ممكنة

لكن الطريق نحو موقف أوروبي موحد يبدو محفوفًا بالعقبات. فداخل الاتحاد الأوروبي، لا تزال دول رئيسية مثل ألمانيا والمجر تعرقل أي توجه جماعي لمعاقبة إسرائيل، إما بدافع المصالح الاقتصادية أو الحسابات التاريخية. هذا الانقسام يعقّد مهمة الدول الداعمة لفلسطين، ويجعل أي قرار جماعي يحتاج إلى إجماع شبه مستحيل في الوقت الراهن.

خليل شاهين الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، يرى أن الانقسام الأوروبي ليس قدرًا محتومًا، لكنه يتطلب استراتيجيات بديلة. يقول شاهين لـ«عُمان»: «مشكلة أوروبا أنها منقسمة على نفسها، وهناك دول رئيسية تعيق حتى اتخاذ إجراءات بسيطة لمعاقبة إسرائيل على جرائمها». لكنه يؤكد أن عدم وجود موقف جماعي لا يعني غياب الخيارات، إذ يمكن لكل دولة على حدة أن تتخذ خطوات عقابية، كما فعلت إسبانيا وإيرلندا، أو كما قامت به دول غير أوروبية مثل كولومبيا.

ويضيف شاهين أن العزلة الاقتصادية لإسرائيل يمكن أن تتحقق تدريجيًا عبر قرارات فردية لكنها متراكمة، مثل مقاطعة المنتجات القادمة من المستوطنات أو سحب الاستثمارات من الشركات المتورطة في الاحتلال. مثل هذه الإجراءات، وإن بدت رمزية في البداية، قادرة على إحداث تأثير تراكمي يضغط على الحكومة الإسرائيلية أكثر من أي بيان سياسي.

ويشير المحلل الفلسطيني إلى أن المجتمع المدني الأوروبي يمتلك دورًا مهمًا في هذا السياق، من خلال حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، وهي أدوات أثبتت فعاليتها في تجارب سابقة مثل جنوب إفريقيا. وبرأيه، فإن دعم الحكومات لهذه الحملات أو حتى تغاضيها عنها يمكن أن يشكل عامل ردع حقيقي لإسرائيل.

وفي ختام حديثه، يشدد شاهين على ضرورة أن تعمل القيادة الفلسطينية على بناء تحالفات أوسع مع دول الجنوب العالمي ومع حركات التضامن الشعبية في أوروبا، لخلق ضغط مزدوج سياسي وشعبي يضع إسرائيل أمام عزلة دولية متنامية.

مخاوف متصاعدة

رغم هذه التحركات، يسيطر القلق على الشارع الفلسطيني من أن تذهب إسرائيل بعيدًا في إجراءاتها العقابية. فالتجارب السابقة تؤكد أن الحكومات الإسرائيلية لا تتردد في فرض عقوبات جماعية، سواء عبر إغلاق المعابر أو تكثيف الاستيطان أو حتى شن عمليات عسكرية، وهو ما يجعل الاعترافات الأوروبية سيفًا ذا حدين في نظر الكثيرين.

في مدينة رام الله، تعبر الشابة مريم عودة، 27 عامًا، عن مخاوفها من أن تتحول الاعترافات الأوروبية إلى «ذريعة» بيد الحكومة الإسرائيلية لتصعيد إجراءاتها القمعية. تقول مريم: «نحن نرحب بأي اعتراف بحقوقنا، لكننا نعرف كيف تفكر حكومة نتنياهو. كل خطوة لصالحنا يقابلها تصعيد في الاستيطان أو اعتقالات جماعية». وتضيف لـ«عُمان» أن عائلتها تتخوف من احتمال فرض قيود إضافية على الحركة قد تعزل المدن الفلسطينية أكثر مما هي عليه الآن.

أما التاجر ناصر حمدان من مدينة الخليل، فيرى أن أخطر ما يهدد الفلسطينيين هو قرار وزير المالية الإسرائيلي بتقييد عمل البنوك الفلسطينية. «إذا توقف تحويل الأموال أو سحب الشيكل من الأسواق، فستنهار تجارتنا خلال أيام»، يقول حمدان.

ويشير لـ«عُمان» إلى أن أي عقوبات اقتصادية ستنعكس مباشرة على الحياة اليومية، من ارتفاع الأسعار إلى نقص السلع الأساسية، داعيًا الدول الأوروبية إلى اتخاذ إجراءات وقائية مثل توفير ضمانات مالية عاجلة للسلطة الفلسطينية.

ومن قلب الحصار في قطاع غزة، يعبر الصحفي عامر الفرا، عن مزيج من الأمل والقلق إزاء الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين، مؤكدا أن سكان القطاع الذين يرزحون تحت حصار طويل يخشون أن تتحول هذه الاعترافات إلى ذريعة بيد حكومة نتنياهو لتشديد القيود على المعابر ومنع إدخال المساعدات أو تقليص مساحة الصيد وتقييد إدخال الوقود والكهرباء، ما يعني مزيدًا من الأزمات اليومية لأكثر من مليوني فلسطيني.

ورغم أن هذه الخطوة تمثل بارقة أمل طال انتظارها، فإن عامر يحذر من بقائها رمزية ما لم تتبعها إجراءات أوروبية عملية مثل فرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل أو توفير آليات حماية للمدنيين، ويقول بنبرة يختلط فيها الأمل بالإصرار: «نريد أن نرى أثرًا حقيقيًا يخفف من الحصار ويؤمن وصول الدواء والغذاء، لا مجرد بيانات دعم»، داعيًا الحكومات الأوروبية إلى تحمل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية ووقف يد الاحتلال قبل أن يدفع الفلسطينيون ثمنًا جديدًا لخطوات يفترض أنها جاءت لنصرتهم.

خطوات مفاجئة

وفي ختام المشهد، قال الخبير في العلاقات الدولية أحمد رفيق عوض: إن حكومة نتنياهو قد تلجأ إلى خطوات مفاجئة رغم التحذيرات الدولية، خاصة إذا شعرت أن الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين قد تفتح الباب أمام محاسبتها في المحافل الأممية.

وأوضح، في تصريح لـ«عُمان»، أن نتنياهو قد يسعى إلى ضم مناطق جديدة في الضفة أو تكثيف الاستيطان لفرض وقائع ميدانية، إلى جانب استخدام سلاح الاقتصاد عبر حجز أموال الضرائب أو التضييق على المعاملات البنكية بما يترك أثرًا مباشرًا على حياة الفلسطينيين.

ورأى عوض أن هذه الإجراءات قد تُتخذ حتى مع وجود اعتراضات أمريكية أو أوروبية، داعيًا إلى تحرك دبلوماسي فلسطيني نشط في المؤسسات الدولية يترافق مع ضغط شعبي وحملات مقاطعة وحشد دعم عربي وإسلامي يوفر شبكة أمان اقتصادية، معتبرًا أن الاعترافات الأوروبية فرصة نادرة تحتاج إلى استراتيجية بعيدة المدى لاستثمارها.