سد الفجوة .. مستقبل النفوذ في جنوب شرق آسيا
سوزانا باتون
ترجمة: نهى مصطفى
يتناول صانعو السياسات والباحثون في الغرب جنوب شرق آسيا بوصفها منطقة متماسكة، غير أنها لطالما كانت منقسمة. فالسكان، البالغ عددهم نحو 700 مليون نسمة، يتحدثون مئات اللغات وينتمون إلى ديانات متباينة، بينما تختلف الدول الإحدى عشرة في أنظمتها السياسية وأحجامها وجغرافيتها ومستويات تنميتها الاقتصادية. خلال الحرب الباردة، انقسمت المنطقة بين الدول الخمس المؤسسة لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) المتحالفة مع الولايات المتحدة – إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند – ودول الهند الصينية الثلاث – كمبوديا ولاوس وفيتنام – التي ارتبطت بتحالفات مع الصين أو الاتحاد السوفييتي.
بعد انتهاء الحرب الباردة، توسعت رابطة آسيان لتضم كمبوديا ولاوس وفيتنام، إضافة إلى سلطنة بروناي، مما عزز من ثقل جنوب شرق آسيا ككيان جيوسياسي. ومع ذلك، ورغم ما حققته آسيان من إنجازات في تعزيز التعاون بين أعضائها، فإن فكرة جنوب شرق آسيا الموحدة لا تزال أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. فالواقع يكشف عن منطقتين لا منطقة واحدة. ووفقًا لمؤشر تأثير جنوب شرق آسيا الصادر عن معهد لوي، الذي يقيس نفوذ الشركاء الأجانب في المنطقة، ما تزال هناك شبكتان متميزتان: الأولى قارية تضم كمبوديا ولاوس وميانمار وتايلاند وفيتنام، وتميل نحو الصين. أما الثانية فبحرية، تتألف من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، وترتبط دولها بروابط قوية فيما بينها، وتتعامل مع مجموعة أوسع من الحكومات خارج المنطقة، متبنية نهج التحوط بين الولايات المتحدة والصين. وتبقى الفلبين حالة استثنائية، إذ تفتقر إلى حلفاء مقربين داخل آسيان وتعتمد بدرجة أكبر على الشركاء غير الآسيويين، ولا سيما الولايات المتحدة، مقارنة بأي من جيرانها.
من المتوقع أن تتسع الفجوة بين الشبكتين القاريّة والبحرية في جنوب شرق آسيا خلال العقود المقبلة، بما يؤدي إلى نشوء مجال نفوذ صيني فعلي في جنوب شرق آسيا القارية. وللحد من تمدد بكين، ربما يتعين على الولايات المتحدة تعميق علاقاتها مع الدول الواقعة عند نقطة الالتقاء بين هاتين المنطقتين الفرعيتين: تايلاند وفيتنام.
تفصل الغابات الجبلية الوعرة الصين عن لاوس وميانمار وفيتنام، ومن خلال هذه البلدان، عن كمبوديا وتايلاند. وأطلق عالم الأنثروبولوجيا جيمس سكوت على هذه التضاريس اسم «زوميا»، مشيرًا إلى أنها حالت عبر معظم تاريخ المنطقة دون سيطرة أي دولة بشكل كامل على تلك المرتفعات. أبقت هذه الحواجز الجغرافية جنوب شرق آسيا القارية بعيدًا عن الصين لآلاف السنين، وشكلت حدًا طبيعيًا أمام توسع الدولة الصينية. غير أن القرن الحادي والعشرين حمل معه تكنولوجيا تجاوزت التضاريس: إذ سهلت الطرق والسكك الحديدية والمناطق الاقتصادية الخاصة تبادل الأشخاص والبضائع بين الصين وجنوب شرق آسيا القارية. ومن خلال مبادرة «الحزام والطريق»، وفرت بكين التمويل لمشاريع بنية تحتية ضخمة، خاصةً السكك الحديدية، التي ربطت الدول القارية بالصين ماديًا، مغيرةً طبيعة العلاقات معها على نحو لا ينطبق على الدول البحرية.
فعلى سبيل المثال، في عام 2021 تم ربط جنوب الصين بالعاصمة اللاوسية فيينتيان عبر خط سكة حديد، في إطار خطة صينية أوسع لمد هذا الخط عبر تايلاند وماليزيا وصولًا إلى سنغافورة ومدينة كونمينج الصينية. وقد كان لهذا المشروع أثر بالغ على لاوس، الدولة الصغيرة المثقلة بالديون لبكين، إذ ارتفعت التجارة بين الجانبين بشكل حاد منذ تشغيل الخط، معظمها صادرات زراعية يزرعها اللاوسيون على أراضٍ مستأجرة لمستثمرين صينيين.
لكن لعلاقات لاوس بالصين جانبًا مظلمًا أيضًا؛ ففي مطلع القرن الحالي أنشأت لاوس مناطق اقتصادية خاصة لتشجيع الاستثمار الأجنبي، لكنها تحولت اليوم إلى مناطق خارجة عن سلطة الدولة، حيث يعمل رجال أعمال صينيون، بل وحتى قوات أمن، خارج إطار القانون. وقد أصبحت هذه المناطق بؤرًا لتجارة المخدرات وجرائم الحياة البرية والهجرة غير المنظمة من ميانمار ودول مجاورة، إضافة إلى عمليات الاحتيال الإلكتروني. وبذلك، تفتقر لاوس إلى سيادة فعلية على جزء كبير من أراضيها.
أما في ميانمار، فقد أعاقت الحرب الأهلية مشاريع الطرق والسكك الحديدية الرامية إلى ربط الصين بالمحيط الهندي، في حين واصل خط أنابيب النفط والغاز عمله رغم القتال العنيف. وحتى فيتنام، التي عُرفت تاريخيًا بحذرها من النفوذ الصيني، اجتذبت مستويات مرتفعة من الاستثمارات الصينية الخاصة بفعل الحرب التجارية بين واشنطن وبكين. فقد نقلت شركات عدة سلاسل توريدها من الصين إلى فيتنام، خاصة في شمالها، وهو تحول لافت بعدما كان جنوب فيتنام تاريخيًا مركزًا أكثر أهمية للتجارة والتبادل. ولا تزال التعريفات الجمركية الأمريكية على المنتجات الفيتنامية، البالغة 20%، أقل من نظيرتها المفروضة على السلع الصينية، ما يجعل من المرجح استمرار تدفق الاستثمارات الصينية إلى فيتنام.
موّلت الصين أيضًا مشاريع سكك حديدية في جنوب شرق آسيا البحرية؛ ففي عام 2023، على سبيل المثال، افتُتح خط سكة حديد محلي فائق السرعة بقيمة 7.3 مليار دولار يربط العاصمة الإندونيسية جاكرتا بمدينة باندونج. كما يجري العمل على مشروع آخر لربط الساحلين الشرقي والغربي لماليزيا بالسكك الحديدية، بتكلفة تقارب 12 مليار دولار. ورغم أن هذه المشاريع تعزز مكانة بكين كشريك اقتصادي في الدول البحرية، فإنها لم تربط إندونيسيا أو ماليزيا بالصين ارتباطًا مباشرًا حتى الآن.
وفي حين شهدت منطقة جنوب شرق آسيا القارية خلال العقد الماضي تحوّلًا واضحًا بفعل ارتباطها بالصين، لم ينطبق ذلك على جنوب شرق آسيا البحرية، التي جعلها موقعها الجغرافي دائمًا ساحة لتعدد الشركاء التجاريين. وتُعد إندونيسيا والفلبين – أكبر دولتين بحريتين في المنطقة – أرخبيلين هائلين، وتمتدان مع سنغافورة وماليزيا عبر ممرات مائية رئيسية تربط آسيا بالعالم. وكما أطلق سكوت على مرتفعات آسيا القارية اسم «زوميا»، فقد ابتكر الصحفي فيليب بورينج مصطلح «نوسانتاريا» لوصف الامتداد البحري الشاسع في جنوب شرق آسيا.
سعت الصين إلى بسط سيطرتها على الممر البحري المركزي في المنطقة، بحر الصين الجنوبي، وهو ما أثار قلقًا عالميًا نظرًا لاعتماد التجارة الدولية على بقاء هذه الممرات مفتوحة؛ ففي عام 2016، رفضت محكمة تابعة للأمم المتحدة مزاعم الصين بالسيادة على المنطقة داخل «خط النقاط التسع»، الذي يغطي تقريبًا كامل بحر الصين الجنوبي. ومنذ ذلك الحين، دعمت عشرات الدول، بما فيها المملكة المتحدة، هذا الحكم، تأكيدًا للأهمية العالمية لهذه الممرات المائية.
وبما أن دول جنوب شرق آسيا البحرية أكبر حجمًا وأكثر أهمية للتجارة العالمية من نظيراتها القارية، فهي تجذب استثمارات وتنمية من مجموعة أوسع من المانحين الدوليين، كما تحظى باهتمام أكبر في قضايا الدفاع. فمنذ عام 2017، جاءت معظم مبادرات التعاون الدفاعي الجديدة بين الغرب وجنوب شرق آسيا مع الدول البحرية وفيتنام. وتدرك هذه الدول، التي تواجه ضغوطًا متزايدة من مطالبات الصين البحرية الشاملة وتوغلاتها المستمرة في مناطقها الاقتصادية الخالصة، الحاجة إلى التعاون مع الولايات المتحدة وحلفاء غربيين آخرين.
وتستخدم الولايات المتحدة وحلفاؤها – ولا سيما أستراليا واليابان – دول جنوب شرق آسيا البحرية لتعزيز أهدافهم في مواجهة الصين. فبالنسبة لواشنطن، تمثل التدريبات العسكرية المشتركة مع الفلبين أداة للحفاظ على الوصول إلى ما يُعرف بـ«سلسلة الجزر الأولى»، التي تفصل الصين عن المحيط الهادئ. وقد كثفت الولايات المتحدة مبيعاتها العسكرية وتعاونها الدفاعي مع الفلبين، التي كانت الأكثر تعرضًا للعدوان البحري الصيني، باعتبار ذلك استثمارًا في ترسيخ احترام القانون الدولي، ومنع بكين من فرض إرادتها على الدول الأصغر.
سيستمر التباعد بين مجموعتي دول جنوب شرق آسيا. فالدول البحرية في المنطقة ستبقى منفتحة على عدد كبير من الشركاء؛ صحيح أن الصين ستظل أكبر مصدر نفوذ خارجي لها، لكن الفارق لن يكون كبيرًا، إذ ستقابلها قوى أخرى مثل الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، ما يضعف من سطوة بكين. في المقابل، يُرجح أن تصبح دول جنوب شرق آسيا القارية جزءًا من مجال نفوذ صيني فعلي؛ فالصين لن تمارس عليها سلطة مطلقة، لكنها ستحظى هناك بنفوذ يتجاوز أي قوة أخرى خارج المنطقة.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان ميّالًا إلى فكرة «مناطق النفوذ»، إذ سعى إلى إعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي مع إبداء قدر من الاحترام لمصالح روسيا في أوروبا. ومن هذا المنظور، قد ترى واشنطن في جنوب شرق آسيا القارية مجال نفوذ طبيعي للصين. وبالنسبة للولايات المتحدة التي تميل إلى تقليص التزاماتها الدولية، قد يبدو الانسحاب من المنافسة مع الصين في هذه الساحة خيارًا منطقيًا. غير أن عليها أن تحذر من تبعات مثل هذا التوجه. فإذا لم ترغب في تقويض مكانتها في جنوب شرق آسيا، يتعين عليها تعزيز علاقاتها مع الدول الواقعة على هامش منطقة نفوذ بكين: فيتنام وتايلاند.
تتمتع فيتنام بسمات قارية واضحة: نظام سياسي مغلق، وتاريخ من التحالف مع الاتحاد السوفييتي، وصلات وثيقة بكمبوديا ولاوس، وعلاقات متنامية مع الصين. ومع ذلك، فقد أصبحت أكثر ميلًا إلى الانفتاح البحري في رؤيتها الاستراتيجية. ففي عام 2023، رفعت مستوى علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى «شراكة استراتيجية شاملة»، في إشارة إلى إدراكها أهمية واشنطن كشريك حيوي. لكن إدارة ترامب أهدرت هذه النوايا الحسنة حين تعاملت مع هانوي كخصم في مفاوضات فرض الرسوم الجمركية الأحادية، وهي خطوة تهدد بإلحاق ضرر طويل الأمد بمكانة الولايات المتحدة في فيتنام.
ينبغي على الولايات المتحدة أن تولي تايلاند اهتمامًا أكبر. كانت تايلاند، بحكم كونها حليفة في حقبة الحرب الباردة وصاحبة اقتصاد متقدم، صديقة للعديد من الشركاء الخارجيين، بما في ذلك الغربيون. غير أن الديمقراطية هناك تراجعت منذ عام 2006، بينما عززت بانكوك علاقاتها الاقتصادية والدفاعية مع بكين. لذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تستثمر بجدية أكبر في هذا التحالف، وأن تتجنب الإجراءات العقابية التي قد تدفع تايلاند نحو مورّدي السلاح في الصين. فعلى سبيل المثال، فرضت واشنطن في مارس عقوبات على مسؤولين تايلانديين لترحيلهم أربعين طالب لجوء من الأويغور إلى الصين. ومن خلال تعزيز شراكاتها مع فيتنام وتايلاند، تستطيع الولايات المتحدة الإسهام في إبقاء جنوب شرق آسيا البحرية مفتوحة، ووضع حد طبيعي لطموحات الصين في الهيمنة على المنطقة، والحفاظ على مصالحها في المحيطين الهندي والهادئ الأوسع.
سوزانا باتون زميلة باحثة في برنامج السياسة الخارجية والدفاع في مركز دراسات الولايات المتحدة.
عن فورين أفيرز «خدمة تربيون»
