إسرائيل ترتكب إبادة بيئية في غزة
جورج مونبيو
شعب بلا أرض، وأرض بلا شعب؛ هذان كما يبدو هما الهدفان اللذان تسعى حكومة إسرائيل إلى تحقيقهما في غزة. وهناك وسيلتان لبلوغ ذلك: الأولى هي القتل الجماعي للفلسطينيين وتهجيرهم، والثانية هي جعل الأرض غير صالحة للحياة. فإلى جانب جريمة الإبادة الجماعية تتكشف مأساة كبرى أخرى: الإبادة البيئية.
وإذا كانت صور الدمار الذي لحق بالمباني والبنى التحتية في غزة مرئية في كل مقطع فيديو نشاهده فإن التدمير الموازي للنظم البيئية وسبل العيش أقل ظهورًا. قبل هجوم السابع من أكتوبر الذي أطلق الهجوم الحالي على غزة كان نحو 40% من أراضيها يُستغل في الزراعة. وبرغم الكثافة السكانية الهائلة كانت غزة مكتفية ذاتيًا إلى حد كبير في إنتاج الخضراوات والدواجن، وتلبي جانبًا كبيرًا من احتياجات السكان من الزيتون والفواكه والحليب. لكن الشهر الماضي أفاد تقرير للأمم المتحدة أن 1.5% فقط من الأراضي الزراعية ما زال متاحًا وسليمًا. أي ما يعادل نحو 200 هكتار فقط - المساحة المباشرة الوحيدة المتبقية لإطعام أكثر من مليوني إنسان.
ويعود جزء من ذلك إلى التدمير المنهجي للأراضي الزراعية على يد الجيش الإسرائيلي؛ فقد دمّرت القوات البرية البيوت المحمية، وجرفت الجرافات البساتين، واقتلعت المحاصيل، وسحقت التربة فيما قامت الطائرات برشّ المبيدات العشبية فوق الحقول.
تُبرِّر قوات الاحتلال الإسرائيلي هذه الهجمات بالقول: إنّ «حماس تعمل غالبًا من داخل البساتين والحقول والأراضي الزراعية». وعلى المنوال نفسه يُقال: إنّها تعمل من المستشفيات والمدارس والجامعات والمناطق الصناعية، ومن أي مورد يعتمد عليه الفلسطينيون للبقاء. كل ما تحتاجه قوات الاحتلال لتسويغ التدمير هو الادعاء بأنّ حماس قد استخدمت، أو ربما ستستخدم المكان المراد تدميره. وإن لم يكن هناك دليل؟ فـ«آسفون. فات الأوان».
يمضي الجيش الإسرائيلي في توسيع ما يسميه «المنطقة العازلة» على طول الحدود الشرقية لغزة، وهي منطقة تحتوي على جزء كبير من الأراضي الزراعية في القطاع. وكما يشير الباحث في حقوق الإنسان حمزة حمّوشنة؛ فإنّ إسرائيل بدلاً من «جعل الصحراء تزدهر» - وهو ركن ثابت في دعايتها الرسمية - تعمل في الحقيقة على تحويل الأرض الخصبة والمنتجة إلى صحراء قاحلة.
ولعقود طويلة ظلّت الحكومة الإسرائيلية تقلع أشجار الزيتون الفلسطينية العتيقة لحرمان الفلسطينيين من موردهم الأساسي، ولتحطيم معنوياتهم، وقطع صلتهم بأرضهم. والزيتون إلى جانب أهميته المادية - إذ يشكّل نحو 14% من الاقتصاد الفلسطيني - يحمل رمزية عميقة؛ فإذا لم تكن هناك أشجار زيتون فلن يكون هناك غصن زيتون. إنّ سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها إسرائيل بالتوازي مع حصارها للغذاء تضمن المجاعة.
لقد أدّت هجمات جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة إلى انهيار منظومة معالجة مياه الصرف الصحي. فالمجاري غير المعالَجة تغمر الأرض، وتتسرب إلى خزانات المياه الجوفية، وتسمّم المياه الساحلية. الأمر نفسه تكرر مع النفايات الصلبة: جبال من القمامة باتت تتعفن، وتتصاعد منها الأدخنة وسط الركام، أو تُدفع إلى مكبّات عشوائية تُطلق الملوّثات.
قبل العدوان الحالي كان سكان غزة يحصلون على نحو 85 لترًا من المياه للفرد يوميًا، وهو مستوى شحيح، لكنه يقترب من الحد الأدنى الموصى به عالميًا. أما في فبراير الماضي فانخفض المعدل إلى 5.7 لتر فقط. ويواجه الخزان الجوفي الساحلي – المصدر الأساسي للمياه في غزة – تهديدًا إضافيًا بفعل إغراق الأنفاق بمياه البحر؛ إذ إنّ تسرّب الأملاح بعد حد معين سيجعل الخزان غير صالح للاستعمال.
قدّرت برنامج الأمم المتحدة للبيئة العام الماضي أنّ كل متر مربع من غزة مغطّى بمتوسط 107 كيلوغرامات من الركام الناتج عن القصف والتدمير. وكثير من هذا الركام مختلط بالأسبستوس، وبذخائر غير منفجرة، وبقايا بشرية، وبسموم أطلقتها الأسلحة. وتحتوي الذخائر على معادن خطيرة مثل الرصاص والنحاس والمنغنيز ومركبات الألمنيوم والزئبق واليورانيوم المنضّب. وهناك تقارير موثوقة عن استخدام جيش الاحتلال للفوسفور الأبيض بشكل غير قانوني، وهو سلاح كيميائي وحارق بشع يلوّث التربة والمياه على نطاق واسع. كما أنّ الغبار السام والدخان المستنشق يخلّفان آثارًا صحية مدمّرة على الناس.
وفوق كل ذلك تأتي البصمة الكربونية الكارثية للعدوان: مزيج من الانبعاثات المباشرة الضخمة للحرب، والتكلفة المناخية المذهلة لإعادة إعمار غزة (إذا سُمح بذلك يومًا ما) فإعادة الإعمار وحدها ستنتج غازات دفيئة تعادل الانبعاثات السنوية لدولة متوسطة الحجم.
عندما ننظر إلى الإبادة البيئية جنبًا إلى جنب مع الإبادة الجماعية ندرك حجم المسعى الإسرائيلي الكامل الرامي إلى القضاء على الفلسطينيين وأرضهم معًا. وكما يقول عالم البيئة الفلسطيني مازن قمصية: «التدهور البيئي ليس عرضيًا – بل هو متعمَّد، وممتدّ، ويهدف إلى كسر الصمود البيئي للشعب الفلسطيني». لقد كتبتُ قليلًا عبر السنين عن التأثيرات البيئية للقوات المسلحة؛ إذ أرى أنه إذا لم ننجح في إقناع صانعي القرار بأن قتل البشر خطأ فلن نقنعهم أبدًا بأن قتل الكائنات الأخرى خطأ أيضًا. ويبدو أن كثيرين غيري شعروا بالطريقة نفسها، وهو ما يفسر جزئيًا سبب إعفاء الجيش غالبًا من الرقابة البيئية التي تُفرض على قطاعات أخرى. لكن بصمته البيئية - حتى في أوقات السلم - هائلة.
فمرصد النزاعات والبيئة يقدّر أن القوات المسلحة في العالم مسؤولة عن نحو 5.5% من الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة. ومع ذلك، وبفعل ضغوط مارستها الحكومة الأمريكية؛ جرى إعفاؤها من الإبلاغ الإلزامي في إطار اتفاق باريس للمناخ. كما أنها لا تُحاسَب بشكل مناسب على طيف واسع من الأضرار البيئية الأخرى من إزالة الغابات إلى التلوث، ومن تدمير التربة إلى التفريغ غير المنظم للنفايات.
لا أحد ممّن يهتم بهذا الملف يطالب بـ «رصاص أخضر»، أو «قنابل خضراء»، لكن بين الحين والآخر يسعى باحثون عسكريون ووزارات دفاع إلى إقناعنا بأنهم قادرون اليوم على تفجير البشر بطريقة «مستدامة». ولطالما أكّد الناشطون البيئيون أن السلام وحماية البيئة لا ينفصلان؛ فالحرب مدمّرة للنظم البيئية بقدر ما هي مدمّرة للبشر، وانهيار البيئة نفسه سبب رئيسي للحروب.
بالنسبة للحكومة الإسرائيلية؛ فإن محو النظم البيئية ووسائل البقاء يبدو هدفًا استراتيجيًا مركزيًا. فهي تبدو وكأنها تسعى إلى ما سماه البعض بـ «الهولو سايد» (holocide): التدمير الكامل لكل مظاهر الحياة في غزة. وحتى في غياب قانون دولي خاص بجريمة الإبادة البيئية التي يطالب كثيرون بإقرارها؛ فإن تدمير النظم البيئية الفلسطينية يخالف بوضوح المادة الثامنة من نظام روما الأساسي، ويجب أن يُنظر إليه جنبًا إلى جنب مع جريمة الإبادة الجماعية. أما إذا كان المخطط النهائي هو إنشاء «ريفيرا غزة» أو مشروع شبيه لبناء مدينة تكنولوجية للنخب خالية من المكان والتاريخ – على النحو الذي يفضّله دونالد ترامب وبعض الساسة الإسرائيليين – فمَن يحتاج إلى أشجار أو تربة أو محاصيل؟ لا كلفة على الجناة، أو هكذا يظنون على الأقل حتى يُساقوا إلى العدالة.
جورج مونبيو كاتب عمود في صحيفة الغارديان
تمت الترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي
