اعتراف المملكة المتحدة بدولة فلسطينية ليس كافيا وحده

24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025

كريس دويل 

ترجمة: بدر بن خميس الظفري 

في عام 2014 صوّت مجلس العموم البريطاني على مذكرةٍ غير مُلزِمة للاعتراف بدولة فلسطين. وخلال إجازة نهاية الأسبوع الماضية أعلن رئيس الوزراء كير ستارمر اعتراف بريطانيا بدولةٍ فلسطينية بعد أكثر من عقدٍ على ذلك التصويت، الأمر الذي يفتح باب التساؤل عمّا كان يمكن أن يحدث لو صدر الإعلان في ذلك الحين. لو وقع ذلك آنذاك لاحتفى الفلسطينيون في كل مكان، وستقام المسيرات وتُرفع الرايات، ويغمر التفاؤل النفوس. 

فلماذا لا يحدث هذا اليوم؟ أين صيحات الفرح؟ ولماذا لن يزعج الأمر إسرائيل وبنيامين نتنياهو كثيرًا رغم تصريحاته العلنية؟ 

المأساة أنّ الاعتراف يأتي متزامنًا مع إبادةٍ جارية. وبينما تُقِرّ بريطانيا بما سبق أن اعترفت به 149 دولة، تُمحى «الدولة الفلسطينية» بالقصف والتجويع وسرقة الأرض. بريطانيا تُسلّم شهادة ميلاد فيما تُجري إسرائيل طقوس الدفن. 

تُعد غزّة جزءًا أصيلًا من أي كيانٍ فلسطيني مستقبلي. غير أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية اشتدّت، وما بقي قائمًا من بناء الدولة الفلسطينية لا يُتوقَّع له عمرٌ طويل، وربما ينطبق ذلك، للأسف، على جزءٍ كبيرٍ من السكان. فهناك مناطق واسعة من غزّة تعيش مجاعةً مصطنعة وأوبئة ناجمة عن سياسةٍ معلَنة لحكومة إسرائيل. 

وإن كانت بريطانيا وكندا وأستراليا وغيرها تريد حقًّا قيام دولةٍ فلسطينية مستقلة قابلةٍ للحياة، فعليها أن تفهم أنّ الاعتراف لم يكن يومًا العقبة، فإطلاق وصف «دولةٍ فلسطينية» اليوم لن يبدّل شيئًا على الأرض، فهي مجرّد ألفاظ. فإرشادات السفر الصادرة عن وزارة الخارجية لم تعد تذكر «الأراضي الفلسطينية المحتلة»، بل تستخدم «فلسطين»، وهو تعبير يتغافل عن واقع استمرار الاحتلال. 

وقد كان للاعتراف أن يؤتي أكله لو اقترن بعقوباتٍ فاعلة على إسرائيل، فبوسع هذه الدول، في الحدّ الأدنى، اتّخاذ خطواتٍ إضافية لتنفيذ مذكرة التوقيف التي أصدرها «المحكمة الجنائية الدولية» بحق نتنياهو. لكنّ الخشية تكبّلها، والعيون لا تفارق ردّ فعل البيت الأبيض. 

كان ستارمر ومارك كارني رئيس وزراء كندا، وأنطوني ألبانيزي رئيس وزراء أستراليا سيبدون عمالقة دبلوماسية لو أنّهم، مع الاعتراف، أعلنوا حزمة عقوباتٍ مشتركة تشمل وقفًا كاملًا للعلاقات العسكرية والأمنية مع إسرائيل وتقييدًا للتجارة. هذه إجراءات تُمليها الالتزامات القانونية في ضوء الإبادة الجارية في غزّة، وهو ما خلصت إليه لجنةُ التحقيق الأممية في تقريرٍ صدر الأسبوع الماضي. 

وفي الوقت الذي تستقبل فيه هذه الدول سفراء فلسطين في سفاراتٍ جديدة، كان ينبغي استدعاء السفراء الإسرائيليين لتوبيخٍ رسمي، إلا أن السفيرة الإسرائيلية لدى المملكة المتحدة، تسيبي هوتوفلي، غادرت البلاد؛ ولم يحدث طردٌ رغم أنّ الظرف كان يستدعيه، وإنما لأنّ فترة عملها في لندن انتهت. 

يتوهّم هؤلاء القادة الغربيون أنّ هذا الإعلان سيولّد ضغطًا مكافئًا على إسرائيل، إلا أن نتنياهو رفض الاعتراف، على عادته في التكبر، وادّعى مع فريقه أنّ الاعتراف «مكافأة لحماس»، بعد سنواتٍ من الإيحاء بأنّ الحركة ترفض حلّ الدولتين. ما يطمئنه أنّه يحظى بدعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأنّ الأوروبيين عاجزون متفرّقون. 

والسؤال الحقيقي في تقدير نتنياهو: ماذا ستفعل تلك الدول حين يُنفَّذ المشروع الاستيطاني الضخم (إي 1) المصمَّم لتمزيق الضفة الغربية إلى نصفين وفصل القدس عن امتدادها الفلسطيني؟ وهو واثقٌ كذلك أنّ الإعلان لن يعطّل خططه لتمزيق الضفة كما فعل بغزّة وضمّ معظمها إلى إسرائيل. المدهش أنّه غير مكترثٍ لعزلة إسرائيل المتزايدة، ولعلّ في ذلك ما يواسي الفلسطينيين ولو قليلًا. 

غياب الضغط مهما كان حجمه سيُشجّع القيادة الإسرائيلية على المُضيّ قدمًا في خططها. وربما يضحك نتنياهو ساخرًا من عجز هؤلاء القادة وخوفهم. كلّ هذا لا يعدو «دبلوماسيةً ضائعة الهدف». ففي يوليو الماضي وضع ستارمر شروطًا على إسرائيل كي تتجنّب بريطانيا الاعتراف بدولة فلسطينية. كانت مفارقةً أن يُربط قرار الاعتراف بدولةٍ ما بسلوك طرفٍ ثالث. الاعتراف يتعلق بالحقوق والوقائع، ففلسطين دولةٌ واقعة تحت الاحتلال، وللفلسطينيين حقّ تقرير المصير. وكان واضحًا لأيّ متابعٍ له شأن أنّ حكومة نتنياهو لن توافق على وقف إطلاق النار، ولن تدفع باتجاه حلّ الدولتين، ولن تسمح بدخول المساعدات إلى غزّة من دون عوائق. 

ثم إنّ نتنياهو قصف فريق حماس المفاوِض في الدوحة لإجهاض أيّ اتفاق، في تذكيرٍ بأنّ إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ليس في طليعة أولوياته. يقوم ائتلافه السياسي على إنكار أيّ دولةٍ للفلسطينيين، وتتبنّى حكومته سياسة تجويع غزّة لدفع سكّانها إلى التهجير. وإذا تراجع عن واحدٍ من هذه الملفات تفكّك ائتلافه. 

إن لبريطانيا سجلّا طويلا من الأخطاء والإخفاقات في شأن فلسطين وتعاطيها مع الشعب الفلسطيني. مرّاتٍ كثيرة وقفت في الجهة الخاطئة من التاريخ. من حيث المبدأ، كان يفترض أن يكون لاعتراف الدولة التي كتبت «وعد بلفور»، وتولَّت الانتداب ربع قرنٍ ثم خلّفت بلدًا ممزّقًا، وكان يمكن أن يشكّل هذا الاعتراف بداية مسارٍ تصحيحي يضمد الجراح التاريخية. 

ولا يزال في الإمكان أن يتحوّل إلى خطوةٍ مفصلية شرط أن تُعيد حكومة ستارمر توجيه الجهد الدبلوماسي. إذا أُريد لهذا الاعتراف أثرٌ إيجابي، فعلى ستارمر أن يتحرّر من أيّ تصور يُخرِج إسرائيل من توصيف «الدولة المارقة»، وأن تُعامِلها بريطانيا وحلفاؤها على النحو الذي عوملت به روسيا بوتين وسوريا الأسد. إن تحقيق ذلك يحتاج ضغطًا داخليًّا أشدّ، داخل المملكة المتحدة وداخل حزب العمّال على الخصوص. وإنْ ظنّ ستارمر أنّه قدم خدمة في ملف فلسطين، فالحقيقة أنّ الخدمة لا تكتمل إلا مع إنهاء الإبادة وفرض كوابح حقيقية على آلة الحرب الإسرائيلية. 

 كريس دويل مدير «مجلس التفاهم العربي البريطاني». أشرف على تنظيم ومرافقة وفودٍ برلمانية بريطانية إلى بلدانٍ عربية، ونُشرت له مقالات عديدة في الصحافة البريطانية والدولية. 

 عن ميدل إيست آي