No Image
ثقافة

"نحن امتداد للفلج"

23 سبتمبر 2025
يوميات صحفي في إكسبو أوساكا "1"
23 سبتمبر 2025

عاصم الشيدي -

أوساكا تطرح سؤال إنقاذ الحياة.. وفلسفة عماني عريقة تجيب: في توزيع الماء

كانت الشمس قد ارتفعت فوق الرؤوس عندما دخلتُ من البوابة الشرقية لمعرض "إكسبو أوساكا ٢٠٢٥"، كانت حارقة بما يكفي لأتذكر في تلك اللحظة أن اليابان هي "بلاد الشمس المشرقة"، لكن دلالة الإشراق تختلف كثيرا عن لحظة الحرق التي أشعر بها أنا القادم للتو من جزيرة العرب حيث درجات الحرارة تناهز الخمسين درجة في بعض الأيام. كل شيء مختلف هنا حتى في "درجة" إشراق الشمس وسخونتها. رغم ذلك فاليابانيون يسيرون إلى داخل المعرض في طوابير طويلة جدا دون تأفف أو ضجر، وكأن كل واحد منهم ذاهب بكل أناقته إلى حفل موسيقى كلاسيكي يتطلب كل هذه الأناقة والصبر والابتسام. لم يكن لدي تصور عن شكل المعرض من الداخل، وآليات العرض، وحركة الناس داخله، وتوزيع الأجنحة.. وهذه القوافل الكبيرة من البشر لا تتيح لك زاوية للرؤية من بعيد، لكنها تزيد فضولك لمعرفة ماذا هناك؟ فما كان لليابان أن تكون كلها هنا لو كان الأمر عاديا، أو متعلقا بعروض دعائية تحاول من خلالها كل دولة بناء صورة ذهنية لها، أو تبرز قوتها "الناعمة". وهذه أول مرة لي أدخل فيها معرضا من معارض "إكسبو" رغم السنوات الطويلة التي قضيتها في الصحافة حتى الآن. وكنت أعتقد، وتبين الآن أنني على خطأ، أن "إكسبو" معرض اقتصادي قبل أن يتشكل لدي فهم مختلف تماما أن "إكسبو" معرض حضاري ويحمل عمقا فلسفيا في الكثير من أطروحاته عن الحياة وشكل المستقبل.

Image

Image

أول ما يشد انتباهك في المعرض ذلك المطاف الخشبي العجيب الذي يحيط بالمعرض. ولتقريب الصورة إلى الذهن يمكن أن نستعيد "مع الفارق في الدلالة والحجم" شكل المطاف الذي بني حول الكعبة خلال فترة التوسعة في السنوات الماضية. كمية الخشب التي بني بها المطاف هائلة جدا تجعلك تصطدم مباشرة مع فكرة الاستدامة التي يطرحها المعرض، وتلك حكاية أخرى تستحق نقاشا آخر. يصعد الناس للمطاف عبر سلالم ثابتة ومتحركة ويدورون حوله متأملين هيبة المشهد من الأعلى. ولو قيض لي أن أبدأ الآن زيارتي الأولى للمعرض لبدأت بالمطاف الخشبي أولا؛ لأنه يستطيع أن يعطي الزائر صورة بانورامية عن المعرض وعن شكل أجنحته، وشكل الأجنحة جزء أساسي من تصور دلالتها. لكني كنت مدفوعا بالفطرة للبحث عن جناح سلطنة عمان، وما ذهبت للمطاف إلا لاحقا.

Image

لم يكن الوصول سهلا حتى باستخدام خرائط جوجل؛ فأعداد الناس كبيرة جدا، وكان عليّ أن أسير وسطهم واحترم نظام السير الذي ينتظم عبر الطوابير. والطابور في اليابان مقدس بالفطرة ويُشعر الناسَ هنا بكثير من العدالة.

سألت موظفة يابانية عن موقع جناح سلطنة عمان عندما شعرت أنني تهت وسط الزحام.. أصدرت صوتا منغما، سأعتاده لاحقا عندما أسأل أي ياباني عن أي سؤال، وبحثت في الخرائط وأرشدتني بشكل واضح للموقع. حين لمحت اللون الأحمر الداكن عرفت أنني وصلت حتى قبل أن أرى العلم يرفرف عاليا.

حاولت استيعاب دلالات التصميم المعماري فلم أستطع مباشرة. كان الأمر يحتاج إلى حضور العرض المرئي في قاعة العرض لأفهم أن المساحة الخارجية ليست فضاء خارجيا مفتوحا، بدا الأمر لي الآن بوضوح أنه أرض متموجة على هيئة ضفتي واد عماني نحتته السيول عبر ملايين السنين، وهذه المقاعد التي تتكئ على انحناءات طبيعية تشكلت نتيجة عناق الماء بالصخر، وهذا اللون الأحمر هو لون الصخور الصدئة نتيجة ملايين السنين الجيولوجية. أشعر الآن أنني أعرف هذا التصميم تماما، أعرف تلك الشجرة، وأعرف ذلك الفلج وأطرب لذلك الخرير.. إنه جزء مني، أو أنا امتداد له كما قالت الفتاة التي كانت تتحدث في العرض: "نحن امتداد للفلج". وأحسب الآن أن الحياة كلها امتداد لذلك الفلج.

أول ما واجهني وأنا أقترب من باب الدخول إلى قاعة العرض الرئيسي كان رواق الماء. ورواق الماء عبارة عن فلج يسير فوق قنطرة زجاجية شفافة. تسير تحت هذه القنطرة فترى السماء عبر صفاء الماء، وينكسر الضوء القادم من الشمس الحارقة في موجات صغيرة، ويتفتت الظل على الأرض مشكلا لوحة فنية، ويبدو خرير الماء مسموعا بوضوح. هنا يبدأ الجناح فعليا، وتبدأ فكرته في التشكل والتحول إلى رؤية يمكن الإمساك بها. أرفع رأسي وأتابع الماء وهو يسير فوق القنطرة الزجاجية حاملا معه تفاصيل آلاف السنين التي شكلت سردية علاقة الأرض والماء بالإنسان.

Image

في الداخل يبدأ العرض الأول، لوحة "الأرض والماء" باستخدام تقنيات ضوئية متطورة جدا لمشاهدة ولادة أشكال الحياة الطبيعية في عُمان، ويتداخل المشهد فلا تعود تعرف إن كان الماء يسقط من السماء للأرض، أم يصعد منها للسماء. ولكن النتيجة أنك ترى تأثير كل ذلك على أشكال الحياة من نباتات وحيوانات وحيوات وبيئات عمانية. الأمر الذي معه تبدأ التجربة الثانية بلوحة "الأرض والماء والإنسان"، وهي لوحة بصرية تبني عبر مفرداتها تجربة حسية عميقة حول الروابط التي نشأت بين ثلاثية "الأرض والماء والإنسان" في تجربة الإنسان العماني. وكيف تستطيع هذه المفردات أن تعبر في النهاية عن فلسفة "الروابط الممتدة"، روابط بين الأرض والماء، وبين الأرض والإنسان، وبين الماء والقرية، وبين الجبل والسهل، وبين الماء والحياة، وبين الصحراء والموت.. وبين عُمان والعالم. تشبه هذه الروابط خطوط الفلج وهو يشق طريقه إلى القرية، ويعرف أين يقف، ومتى يمضي، وكيف تقسم حصصه على الناس في نظام دقيق جدا، وكيف ينقسم في لحظة من اللحظات إلى عدة روافد بقياسات دقيقة جدا. يجيب هذا المشهد السريالي المليء بالدلالات على سؤال كيف يمكن للعالم تعزيز هذه الروابط لتصبح الأساس لبناء مجتمعات المستقبل. ثم يختتم الفيلم بمقولة مليئة بالرموز والإحالات والدلالات عندما تقول الفتاة في المشهد الختامي: "نحن امتداد للفلج". ستبقى هذه العبارة تلاحقني لفترة طويلة وأنا أفكر فيها وأحاول قراءة دلالاتها. الفلج الذي تعنيه العبارة يتجاوز الفلج الخارجي الذي يعبر فوق القنطرة الزجاجية والشفافة والتي تشظي الضوء في الخارج ـــــــ رغم ما في ذلك من دلالات ورموز عميقة ـــــ إنه طريقة حياة متكاملة تحاول أن تقترحها على العالم. درس عميق في أن الحياة لا معنى لها دون ماء، والماء لا معنى له دون عدل، والعدل لا معنى له دون مشاركة. والقرية العمانية التي علمت أطفالها على تقسيم حصص ماء الفلج، كانت دون أن تدري، تصنع أخلاق المستقبل.

Image

أتذكر الآن ماء الفلج الذي كان يجري وسط قريتي، أتذكر معنى "أثر" الماء، و"الربيع"، وصوت خرير الماء الذي كبرنا على موسيقاه العذبة وتفاصيل كثيرة لم تعنِ لي شيئا فيما مضى.. لكن هنا في ردهة صغيرة بجناح في أوساكا وعلى بعد آلاف الأميال من قريتي تعود الأشياء لتتشكل على هيئة رؤية وفلسفة عميقة ما كنت لأنتبه لدلالاتها، أو كأن القدر كان يمهلني حتى أصل لهذه المدينة في هذا الصباح الملتهب لأفهم الرؤية. هذا ما فعلته عبارة "نحن امتداد للفلج" وما فعلته الهندسة المعمارية حينما تكون صادقة في بناء البعد الفلسفي الذي لا نراه من كثرة تماهينا في تفاصيله.

أخرج من القاعة مشحونا بالرموز لأجد الماء فوق رأسي، فأنا أسير الآن تحت القنطرة الزجاجية الشفافة، والضوء يتكسر عن يميني وعن شمالي. أمضي بين الردهات الحمراء التي شكلتها الجيولوجيا العمانية ونحتها الماء بأزاميله الناعمة على مر ملايين السنين. أفكر في التناغم بين فلسفة جناح عُمان وبين فلسفة المعرض نفسه. شعار أوساكا يتحدث عن "إنقاذ الحياة"، عن تصميم مجتمع للمستقبل لا يلتهم أساسه، (لا أعرف كيف ذلك مع ملايين الأطنان من الخشب التي بني بها ذلك المطاف الضخم!). يجيب جناح سلطنة عمان عن سؤال أوساكا الكبير بفلسفة مستمدة من عمق التجربة العمانية وإن كان ذلك بطريقة مختلفة ومبتكرة دون أن يقول مباشرة بشكل دعائي أو استعراضي عبر طرح سؤال: «كيف نوزع الماء؟». قد يبدو السؤال بدائيا لكنه ليس كذلك. هذا هو السؤال الأخلاقي الأعمق، وإنقاذ الحياة يبدأ من هنا.. من كل التفاصيل التي لها علاقة بثلاثية الأرض والماء والإنسان. من تقسيم ماء الفلج واحترام حصصه، من سياسة الوفرة في الماء وسياسة المحل. وكلها حكم تعلمتها القرية من قسوة الطبيعة، ثم نسيتها المدن حين صار الماء يخرج من الحائط بلا ذاكرة.

أجلس قرب رجل ياباني ستيني خرج للتو من محل بيع الهدايا الخاص بالجناح العماني وقد اشترى بعض اللبان. يسألني من أين أنت؟ أجيبه: من عُمان. يرد عليّ بكلمات مكسرة بين عربية سمعها في العرض وانجليزية يحاول تذكرها: "فلج"، ثم يقول "smart" (ذكي)، وبينما كنت أعبث بمترجم هاتفي لأعرف بماذا أرد عليه فاجأني بالقول "just" (عادل)! لم يختصر هذا الياباني فلسفة العرض العماني، لكنه اختصر في كلمتين الإجابة على سؤال بلاده الكبير الذي تحاول الإجابة عليه في معرض ضخم جدا بحجم معرض أوساكا "كيف ننقذ الحياة!".. علينا أن نكون امتدادا للفلج.

أعبر من تحت الدائرة الخشبية العملاقة وأنا أغادر المعرض وأفكر أننا لا نستطيع أن نحافظ على هذه الحياة بالسيطرة عليها، ولكن بالتفاهم معها، وليس باختراع عالم جديد يبتلع العالم القديم، ولكن بترميم علاقة قديمة مع ما يمكن أن يمنحنا القدرة على البقاء.

• عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان