طبيعة الزمن وطبائع الفن قراءة لتمثّلات الإحساس بالزمن في شعر خميس قلم
24 سبتمبر 2025
24 سبتمبر 2025
جاسم جميل الطارشي -
منذ خيام شعره الأولى التي ما زالت تسكننا والشاعر العماني خميس قلم يُعمل مبضع قلمه في جرح الوقت فينزف موتا. ومنذ انطلاقته الشعرية الأولى وهو مسكون بسراب الزمن، يلهث وراء ظلاله المخاتلة علّهُ يظفر بلحظة نصر ليطعن بسيف لغته الوقت في خاصرته؛ لكنّه، أي الوقت، ما يفتأ يُنشِب أظفاره في جسد الشعر والشاعر؛ فيتشبث، هذا الأخير، بحدسه الشعري مخاتلا الزمن غير آبهٍ بعواء أيامه وفصوله التي نجح، وربما إلى حين، في تبديد صرخاتها وتأبيدها في لغته الفنيّة، بتلوّن طبائعها وتغيّر أشكال حضورها؛ إذ لم توفّر آبدة من أوابد الزمن الشاردة إلا وسجنتها في حضرة الشعر، باحثة عن تلوّناته وتشكّلاته الطبيعية لتصطادها في معادلات موضوعية تُجسد قدرة الشعر على ترويض سلطان الزمن. وتُبرز دور هذا الأخير في تأجيج ما يعتمل في الشعر من فتن؛ فنرى الذات الشاعرة عبر مجموعته الأخيرة تحديدا، وعبر نصوص موّزعة على مجموعاته السابقة، تجأر بالشكوى من الزمن، على نحو ما نجد في هذا النص من مجموعة «شجرة النار»:
«الزمن.. ذلك الكائن الضخم
يهربُ من كُلّ الفخاخ
التي أنصبها لهُ
يبدو أنني سأحتاج
إلى حيلةٍ أكثر اتساعا»
لمواجهة هذه السطوة الحتمية للزمن فإنّ الشاعر لا يفّوت مشهدا طبيعيّا دالّا، إلا وشكّل من خلاله، إحساسه الخاص بالزمن، كما يتّضح على سبيل التمثيل في هذا النص من مجموعة (سأترك الباب مواربا):
«كلّما عشقت وردة في الحديقة أصابها الذبول
أين أضع شغفي، ورفوف الجسد مزدحمة؟!
العمر ينزلق بمكرٍ كماء يخاتل مسامات الرّمل
والرغبات تتكدس في الجسد خردة صدئة تلتحف بصمت الغبار»
والشاعر، إذ يعيد الزمن في مجموعته الأخيرة إلى رحم الطبيعة؛ فكأنه يريد أنْ يقدّمها لنا، أي الطبيعة، مسرحا لعلاقة الزمن بالإبداع؛ فإذا كان الزمن لا يبدل طبيعته، ويسعى إلى تطبيع الحسّ الإنساني بسلطان مضيّه، فإن الفنّ، ممثلا في الشعر في هذه الحالة، يتمرد على هذا التطبيع ليصنع طبعته الخاصة، بحيث لا يجسد هذا الشعر سيرة الوقت وتحولات الذات الشاعرة إزاءها فقط، إنّما يسرد سيرة الشعر وتمثيله لهما.
إنّ اختيار الشاعر مفردات الطبيعة لتكون موادّ شعرية للتعبير عن رؤيته الخاصة للزمن، لا يمكن أن يمرّ علينا دون تأملّ وتبصّر؛ فعوالم الطبيعة ومكوّناته مسرحا شاهدا على تبدّل الزمن وتحولاته من خضرة إلى يباس تذروه رياح الزمن. عن هذا المعنى، يعبّر الشاعر في نص دّال عنونه بـ«كلأ الوقت» يقول فيه:
«واغبّر ما كانَ مخضّرا بعافيتي إنّ اليباس نصيبُ الطامح النظر».
ولبيان هذه المآل الإنساني المأساوي وحتمية الزمن التي تُتوج سيرةَ مُضيّه بالموت، استعار الشاعر من الطبيعة مفرداتها الدّالة على التحوّل والتغيّر؛ بدءا من الإنبات وصولا إلى القطف، تمثيلا لهذا المآل، عندما قال:
«المسافات تنبتُ الشوق
والشوق يُزهر بالرغبات
والرغبات لا تُثمرُ إلا الموت
الموتُ الذي يقطفه الزمن»
فالشاعر يعمد في هذه المجموعة إلى تقديم مفردات الطبيعة، بكل ما تنطوي عليه من تنوّع وتباين، أُمثولةً لجدلية الحياة والموت من خلال تجسيد الزمن، وهو يتربص بكل أشكال الحياة، عبر معادلات موضوعية وتمثيلات حيوية توفرها الطبيعة؛ صانعا بذلك مفارقة حادة، تُبرز مأساة الإنسان إزاء سطوة الزمان؛ حيث صفاءُ الحياة منقوع في كدر الموت! وكأنّ الطبيعة، بتعدّد تمثّلاتها، تنويعٌ على إيقاع جوهر الوجود الإنساني الذي أخبر عنه هذا البيت من نص «الشاعر»:
«إنّي أنا الجوهر المكنون، في صفتي
نقيض ما بي، كأنّي الخلق والعدمُ»
ومثّل الشاعر، لهذه المأساة، بتشكيلات طبيعية تؤكد مبدأ تجذّر الموت في أبهى أشكال الحياة وأغناها! كما نجد في نص «منظوران»، الذي تؤكد دلالته فكرة الجدلية والتباين بين عالمي الحياة والموت، المؤتلفان المختلفان في الوقت ذاته:
«أشرت لصديقي النحّال: ما أبدع هذا الطائر المُكتسي بخضرةٍ غرانيتيّة!
يا لرشاقة جسده المنساب، ومنقاره المتغطرس!
كم أنتَ محظوظ به في فضائك.
خزرني بخزرتين حائرتين
«ذاك صائد النحل»
والدلالة ذاته يجسدها نص «سياحة»؛ حيث صورة الضفادع وهي سائحة سابحة في ماء الفلج وقد وثّقتها كاميرا الهاتف، تقابلها صورة الثعبان الذي يتربص بها تحت ظلال الليمون!
لكننا ونحن نرى سطوة الزمن ممثلا في التشكيلات الطبيعية السابقة، لا نعدم، وذلك عائد إلى طباع الطبيعة التي ما تفتأ تجدد نفسها منبعثة كطائر الفينيق من رماد موتها، وطبائع النفس البشرية التي تشرئب للحياة؛ فعلى الرغم من وعيها بجريان الزمن، إلا أنّها تحلم بالخصب والتجدد كالطبيعة تماما؛ «لذلك يحتفي الشعراء بالطبيعة، فهي المادة الأساسية التي منها نخلق عالم الشعر، أي نخلق منها أنفسنا ثانية هربا من العدم واللاشيء وهو يفتك بنا»، حسب شهادة الشاعر العماني سماء عيسى المنشورة في كتابه «قريبا من النبع».
يمكن الإشارة للتدليل على هذه الفكرة، إلى نصوص: المنصت، وزريابه، دون أنْ نتجاوز عتبة الإهداء التي شكر فيها الشاعر أصدقاءه على تمكينهم لاتصاله بالطبيعة قائلا:
«همسة وفاء للعزيزين:
محمود علي، وسمير الهنائي
شكرًا لتمكين الاتصال بالطبيعة»
إنّ هذه الإهداء يجب أن لا يمرّ علينا دون تفسير؛ باعتبار أنّ الإهداء إحدى العتبات المهمة التي تشكّل «نظاما إشاريا لا يقلّ أهمية عن المتن الذي يحفّزه أو يحيط به؛ حيث يلعب دورا مهمّا في توجيه القراءة وأفق انتظار القارئ» كما يقول أحمد عبدالعظيم محمد في كتابه «عتبة الإهداء في المدونة العربية».
إنّ الفضل الذي يدينه الشاعر إلى صديقيْه، وفقا لهذا الإهداء، مردّه إلى مساهمتهم في توفير اتصاله بالطبيعة واندماجه بها؛ ليأتي هذا التصدير مؤكدا على إحساس الشاعر بالطبيعة واتصاله بها، وتوجيه القارئ إلى التفاعل مع نصوص هذه المجوعة انطلاقا من هذا التصوّر.
رغبة هذا الاتصال، ترجمها الشاعر أيضا في أوّل نصوص المجموعة الموسوم بعنوان دالّ «المنصت» يقول فيه:
بمَ تريد الطبيعة أن تهمس
«أطرق مصيخًا لأصواتها:
الحجر والشجر والطيور والماء والرياح والأغوار والمدارات...
ولا أسمع سوى تردّد أنفاسي».
إنّ قفلة هذا النص بقدر ما تعبّر عن تماهي الذات الشاعرة بالطبيعة واندماجها بها، بقدر ما تجسّد رؤية الشاعر المنقوعة في ماء الزمن وجريانه، وكأنّ الذات الشاعرة باندماجها وتماهيها مع الطبيعية وحركتها، تحلم بإيقاف حركة الزمن لتصبح أنفاسها جزءا من مفردات الطبيعة ونظامها الحيوي المتجدّد.
وفي نصّ آخر تحققت فيه رغبة الاتصال ذاتها بالطبيعة والتماهي معها والاندماج بها، عنونه الشاعر بـ«زريابه»، يقول فيه:
«العصفورة
المتخفية بلازودها الداكن
بين أغصان السمرة المخضّرة
تزقزق
في قلبي».
ولا يفوتنا هنا، الإشارة إلى ما جبلت عليه هذه الطبيعة من عودة وتجدّد، تتجدّد معه طبائع الفن وهي تواجه طبيعة الزمن؛ ليحضر الزمن في هذا المشروع الشعري وهذا ما يهمنا، رافدا من روافد الإبداع؛ فكأنّ الزمن يفتل من حباله المتجددة من قلب الشاعر سفينةَ الشعر التي تمخر أزمان تلقيها بدعة وارتياح غير آبهةٍ بمصير الشاعر الذي:
«يستحضر في خطراته كلّ الكائنات
حجرًا وشجرًا وبشرًا.
في عالمه الجديد لا ينسى
لا ينسى
سوى نفسه»
وعن أثر هذا الإحساس بالزمان في رفد فنيّة نصوص هذه المجموعة، نشير إلى مَلْمَحَيْن بارزين في تشكيل لغة نصوصها، تمثّل الأوّل في حضور الاستفهام سمة أسلوبية في بنية بعضها؛ مجسدا بذلك حَيْرة الذات الشاعرة إزاء مأساة الزمان الوجودية من جهة، وكاشفا عن مسافة التوتر التي توّفرها تمثيلات جدلية الحياة والموت من جهة أخرى؛ الأمر الذي سيضمن أن تنبت بذرة حيرة وقلق أخرى في نفس المتلقي.
وللتمثيل على حضور الاستفهام في بنية بعض النصوص ودوره في إنتاج دلالة الحيرة، نشير إلى نص «حيرة الشاك» ذي العنوان الدال الذي يقول فيه:
«من أين يبدأ حيط الصواب
من أين يبدأ خيط الخطأ؟»
والحيرة التي عبّر عنها عنوان هذا النص، نجدها مجسدة، وعبر قلق السؤال وبنية الاستفهام، في نص آخر حمل عنوان «ما الحل؟» يقول فيه الشاعر:
«هل أنا عالق
أم أنا عائق؟
تلك هي المسألة»
ونجدها ممثلة في نص آخر عبر أحد أشكال الطبيعة الدالّ على فعل الزمن، عنونه الشاعر بعنوان شعّت فيه دلالة الشكّ والتساؤل (انتخاب أم انتحاب):
«ألأنّه رخو تدرّع بالقوقعة
أم
لأنه تدرّع بالقوقعة صار رخوًا؟
بائس
بائسٌ هو الحلزون اليابس».
إنّ هذا النص يجعلنا في حالة حيرة وجودية؛ فإن كان الكائن الحي قادرا على التكيّف وفقا لنظرية «الانتخاب الطبيعي» إلا أنّ طريقة تكيّفه مع متغيرات الحياة، لن تحول دون وصوله لمصيره المأساوي مهما حاول التدرّع بكل أسباب الحماية والأمان، بل قد تكون أسباب الحماية هذه وسائل فنائه ويباسه!
أمّا الملمح الجمالي الثاني الذي أسهم الإحساس بالزمان في تشكيل لغة نصوص هذه المجموعة، فتمثّل في مشهدية الصورة الشعرية وبعدها البصري الذي طغى على بناء أغلبها؛ مستمدة هذا البناء المرئي من أشكال الطبيعة المتنوعة التي سعى الشاعر إلى مقاربة إحساسه بالزمن من خلالها؛ فحضرت مشعّة شفيفة وكأنها مرآة مصقولة تتمرأى فيها هواجس الشاعر وقلقه إزاء معضلة الزمن، محطّما بذلك قيود وأغلال الصورة البلاغية التقليدية التي طالما سجنت رؤى الشعراء في قوالبها اللغوية المحدودة، متفاعلا مع معطيات عصره الذي تُشكّل الصورةُ البصرية أحدَ أهم وسائل إدراكه وتمثيله، الأمر الذي سينعكس بدوره على القارئ؛ ليعدّل من أفق انتظاره ويجدّد طرائق تلقيه للنص الجديد وتفاعله معه، تبعا لتغير بنية الخطاب الشعري وتجدّد أفقه الجمالي.
ومن النصوص التي نقترحها للتدليل على البناء البصري في تشكيل الصورة الشعرية، نص (فقّاعة) الذي جسّد من خلاله الشاعر سرعة مرور الزمن ومآل أشكال البهجة والجمال إلى التلاشي، يقول:
«إلى أين تريد
تلك المزهوة بقزحها
الزائف؟»
والصورة البصرية تحضر في نص «قرب حمران بشوية» متشكلة عبر تمثيله لأحد أبرز نماذج الطبيعة الغنية بالحياة والسعادة حيث خريف صلالة ولحظات الزمن المبهجة وهي منذورة للتبدد تحت سطوة وعي حادّ وإدراك إنساني مفرط في الحيرة والشكّ:
«في الطريق إلى دربات
ستظلّ تنظر إلى الطائرة الورقية المصنوعة من البلاستك
تحلّق عاليًا عاليًا
ستبتسم
هنالك طفل يحلّق في بهجة العلو
ستكفهرّ
ماذا لو انفلت الخيط من يده؟»
إنّ الشاعر يستثمر في هذا النص مشهد الطفل الذي يلهو بطائرته الورقية وهو محاط بكل أشكال البهجة والسعادة؛ ليشكّل من خلاله صورة بصرية، أسهم المشهد السابق المُمَنْتج برؤية سينمائية أخرجتها كاميرا الشاعر اللغوية وهي تلتقط الجزء المرئي من المشهد الضاجّ بالحيوية والحركة السريعة (في الطريق إلى دربات - تحلّق عاليا عاليا) في تفعيل دور القارئ ونقل الإحساس بالزمن إليه، عندما أشركه الشاعر في المشهد، عبر توظيف ضمير المخاطب؛ وفقا لتسلسل أحداث المشهد (ستظل تنظر، ترى، تبتسم، تكفهر)؛وكأنّه متفرج أخذ التصوير السينمائي بلبّه وصار جزءا منه، ومع أنّه لن يرى يد الريح التي ترمز إلى الزمن وهو يسرق بحركته وتغيّره البهجة، لكنّه سيكفهرّ في نهاية المشهد عندما يخامره الشك، تحت تأثير إدراكه الجديد الخاص بالزمان، وتُبددُ بهجةَ تفاعله الحيرةُ التي جُسّدت في التساؤل وبنية الاستفهام «ماذا لو انفلت الخيط من يده؟» ممثلا لتلاشي السعادة بانتهاء مصيرها المحتوم.
تجدر الإشارة في ختام هذه القراءة إلى أنّ الصورة المشهدية ببعدها البصري، لم تبنَ عبر استثمار الشاعر لتعدّد أشكال الطبيعة وتوظيفه لمعرفته السينمائية فقط، إنما أسهم أيضا في تشكيلها وتعميق دلالتها في وعي المتلقي، الإخراج الطباعي، الذي رسم بتشكيلاته المختلفة وتوزّعه على فضاء الصفحة وتفاعل سوادها مع بياضها، صورا بصرية ناطقة بدلالة النصوص؛ على نحو ما نجد في الإخراج الطباعي لنص «فقاعة» الذي شكّل توزيع أسطره وحجم سوادها وبياضها، حركّة الفقاعة وهي في طريقها إلى مصير التلاشي!
ويمكن أنّ نختتم التمثيل لهذا التشكيل البصري للصورة الشعرية بنص «ساعة الرمل» الذي تتفاعل في بنائها المرئي توظيف الشاعر لمشهد ساعة الرمل وإخراج النص الطباعي، في تجسيد إحساسه الخاص بمرور الزمن وسطوة سلطانه الذي سيظّل الشاعر والإنسان يرزح تحت سطوته، دون أن يستطيع ردّها أو حتى التدخّل في إعادتها إلى والوراء؛ ليغيب في رمل الحيرة والتساؤل، يقول:
«تحدّق إلى الرمل الساقط من شقّها الأعلى
ذرات بعد ذرات
ذرّات خلف ذرّات
ذرّات فوق ذرّات
(عيناك حائرتان) هل الذرّة وحدة الزمن؟
(ويداكَ إن شُلّتا) من سيقلب الساعة؟»
جاسم بن جميل الطارشي كاتب عماني
