قطاع للأشخاص ذوي الإعاقة

20 سبتمبر 2025
20 سبتمبر 2025

يواجه العالم في ظل المتغيرات الحالية الجيوسياسة والاقتصادية والتقنية تحديات عدة، تؤثر مباشرة على طرائق الحياة اليومية والممارسات الاجتماعية والاقتصادية التي طالما كانت أهم الممكِّنات الداعمة للرفاه المجتمعي، ولهذا فإن العالم ينشغل اليوم بإيجاد وسائل أكثر قدرة على التكيُّف والمرونة مع تلك المتغيرات، ولأن فئات المجتمع كلها تحتاج إلى تلك الوسائل فإن الأشخاص ذوي الإعاقة هم الأكثر احتياجا وضرورة إليها.

فبحسب أنواع تلك الإعاقات وخصوصياتها تتجسد الاحتياجات التي أصبحت تتعاظم بفعل التطورات والمتغيرات المتسارعة خاصة على المستوى التقني والاقتصادي، فاحتياجات ذوي الإعاقة ليست صحية وحسب، بل إنها ذات أبعاد اجتماعية تطال أنماط الحياة وطرائق العيش، وقد تحد من الاستفادة من الطاقات الكامنة في فئة مهمة من فئات المجتمع يمكنها المشاركة الفاعلة في البناء والعطاء التنموي، إذا ما توفَّرت لها البيئة المناسبة.

إن تعزيز المشاركة الكاملة للأشخاص ذوي الإعاقة تُعد حقا من حقوقهم، قبل أن تكون حقا أصيلا من حقوق المجتمع، الذي يصبو إلى الاستثمار في أبنائه ودعم تطلعاتهم وقدرتهم على المساهمة في تحقيق الأهداف الوطنية، ولذلك فإن دعمهم وتمكين قدراتهم وإتاحة فرص التشغيل والعمل، إضافة إلى تعزيز إدماجهم في المجتمع، سيدعم قدراتهم وانتمائهم ويحقق فرص المساواة والعدالة والرخاء المشترك.

فبحسب التقرير العالمي لإدماج الأشخاص ذوي الإعاقة الصادر عن الأمم المتحدة، أن توفير فرص الإدماج المناسبة لهذه الفئة يعزِّز قدرتهم على الصمود أمام الصدمات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية وغيرها، كما أنه يجعلهم أكثر مرونة واستجابة للتحولات التقنية والمناخية، وأن المجتمعات (الشاملة للجميع) هي مجتمعات مجهَّزة بشكل أفضل للاستفادة من أفراد المجتمع كلهم، بحيث تستثمر في إمكاناتهم وإبداعاتهم بما يوفِّر طاقات تبني الوطن في كافة القطاعات التنموية.

ولأن الأشخاص ذوي الإعاقة يمثلون تشكيلا متنوعا من التجارب الحياتية ومكامن الإبداع المختلفة، فإنهم يحتاجون إلى رعاية تتميَّز بالتنوع والمرونة والشمولية، وبالتالي فإن ذلك يتطلَّب بناء منظومة متكاملة بدءا من تطوير التشريعات والسياسات، والأنظمة والبرامج القادرة على احتوائهم ودعم تطلعاتهم من ناحية، وتحمي حقوقهم من ناحية أخرى، وتسهم في تطوير إمكاناتهم ومواهبهم ومكامن إبداعاتهم من ناحية ثالثة، وانطلاقا من ذلك فإن الدولة أولت هذه الفئة المهمة من فئات المجتمع الرعاية والعناية الشاملة، بدءا من النظام الأساسي للدولة والقوانين والتشريعات وليس انتهاء بالحماية الاجتماعية التي يحضون بها.

ولعل الدليل الوطني للخدمات والتسهيلات المقدمة للأشخاص ذوي الإعاقة، يكشف مكانة هذه الفئة الحيوية في الوطن، وقدرتها على العطاء ما إذا تم تمكينها وتقديم الدعم الكافي لها، ولذلك كانت هذه الخدمات وتلك الحماية ليس فقط من أجل الدعم والرعاية، وإنما أيضا من أجل إيجاد بنية أساسية مؤهلة لتكون حافزا لهم على الاندماج في المجتمع، ودافعا لبذل المجهود وتنمية القدرات ودعم إرادة التغيير من أجل حياة أفضل وتطلُّع نحو تحسين أنماط العيش وتحقيق الرفاه الاجتماعي.

إن تهيئة البيئة المناسبة لذلك التطوير ودعم التنمية الذاتية للأشخاص ذوي الإعاقة، تتطلَّب ما نشهده من تطوير الخدمات التقنية المساندة لهم، واستثمار البرامج والتطبيقات الحديثة خاصة في ظل تطورات أنماط الذكاء الاصطناعي، بحيث يمكن الاستفادة القصوى منها في تقديم الخدمات وتيسير طريقة العيش وتسهيلها بما يخدم ذلك التنوُّع في الإعاقات وشدتها من شخص إلى آخر، فعلى الرغم من البرامج العديدة التي سعت الدولة إلى توفيرها والأجهزة التعويضية التي تقدمها بحسب الاحتياجات المختلفة، إلاَّ أن هناك حاجة إلى رصد تلك الاحتياجات بما يتناسب والتطلعات والقدرة على تعزيز المهارات.

لقد آمنت عُمان بأبنائها جميعا، وسعت إلى تنمية قدراتهم، وتهيئة الظروف المساعدة والداعمة لهم بما يتناسب والمراحل التنموية المختلفة، ولأن الأشخاص ذوي الإعاقة جزء أصيل من المجتمع، فإنهم يلقون الرعاية الفائقة، ولعل الأوامر السامية التي وجهها جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه - قبل أيام قليلة، الخاصة (بإنشاء قطاع جديد على مستوى وكيل وزارة في وزارة التنمية الاجتماعية)؛ ليتولى الإشراف على الخدمات المقدمة لهم، والارتقاء بها وتطويرها، بما يدعم تمكينهم ودمجهم، يعد أحد الشواهد المهمة التي لا تؤكد أهمية الحفاظ على حقوقهم وحمايتها وحسب، بل أيضا ترسِّخ مفاهيم المساواة والعدالة الاجتماعية التي ينص عليها النظام الأساسي للدولة.

إن إنشاء هذا القطاع سيوفِّر مستوى مختلفا من الرعاية والتمكين للأشخاص ذوي الإعاقة، إذ من المؤمل أن يُسهم في تقديم الرؤى الواعدة التي تدعم تطوير مهاراتهم وتصقلها، وتوفِّر بيئة أكثر حيوية ومرونة، تضمن سهولة إدماجهم في فئات المجتمع، خاصة على المستوى التعليمي والعملي؛ فالأطفال المعوقون الذين تم إدماجهم بشكل صحيح أصبحوا أكثر قدرة على التعامل مع متغيرات الحياة المختلفة، وبالتالي سيكونون أكثر إقبالا على الانخراط في بيئات العمل.

عليه فإن المجتمع يتطلَّع إلى رؤية ذات إمكانات قادرة على إدماجهم في المجتمع ودفعهم إلى تعزيز إبداعاتهم وقدراتهم؛ فالخدمات والبرامج التي تٌقدم لهم عليها أن تكون داعمة لمواهبهم، وتوفِّر لهم بيئة محفزة، دافعة نحو التعلُّم الذاتي وتطوير المهارات، لذا فإن تخصيص قطاع يقوم بهذه المهمة، سيوفِّر إمكانات هائلة وبيئة خصبة لتنمية الأشخاص ذوي الإعاقة في عُمان؛ فهذا القطاع سيكون مختصا ومركِّزا على تطوير تلك المنظومة التي طالما كانت متنامية ومتطلِّعة.

إن هذا التوجيه في جوهره ينطلق من الرؤية السامية الراعية لأبناء الوطن، والهادفة للتنمية والاستثمار في رأس المال البشري، انطلاقا من أهداف التنمية الشاملة، التي تتأسَّس على الإنسان، وتقوم وتزدهر به، لبناء ما يُسمى بـ (المجتمع الشامل)، الذي ينعم أفراده جميعا بالدعم والتمكين وتوفير البيئة المناسبة لذلك، ولهذا فإن نجاح هذه المنظومة لا يقوم على سير العمل كما هو معمول به، وإنما البناء على ما تم إنجازه وفق رؤية واضحة وفكر واع يعمل على تنمية القدرات والتمكين والدمج أكثر من الرعاية الحاضنة.

فالأشخاص ذوو الإعاقة بل وحتى أسرهم يحتاجون إلى تمكين وتطوير للمهارات والقدرات بما يعزِّز إمكاناتهم ويدعم استقلاليتهم وقدرتهم على ممارسة حياتهم بشكل أسهل وأيسر، ولذلك فإن هذه المنظومة ستمثِّل تحولا سريعا ومغايرا لتمكينهم وتطويرهم بما يرسخ الأهداف الاجتماعية الوطنية، ويدعم آمالهم وتطلعات أسرهم ومجتمعهم.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة