قراءة في تصريحات ترامب ومواقفه

16 سبتمبر 2025
16 سبتمبر 2025

منذ أن تولى ترامب رئاسة الولايات في بداية هذا العام، أصبح العالم مقلوبًا رأسًا على عقب، وتعتريه حالة من العصف والدفع، حتى إنه بات ينتظر تصريحات ترامب المثيرة للدهشة ومواقفه العجيبة التي لا تتوافق غالبًا مع تصريحاته إزاء الصراعات العالمية السياسية والاقتصادية الراهنة التي يساهم هو نفسه بقوة في تأجيجها (ومع ذلك، فمن الأكثر إثارة للدهشة أنه يطمح في الحصول على جائزة نوبل للسلام!). ولكن هذا بالضبط ما يريده ترامب وما يعبر عن شخصيته؛ فهو يريد أن يبقى دائمًا في بؤرة الضوء باعتباره السيد المهيمن على العالم، تمامًا مثلما أن نتنياهو يريد أن يبقى باعتباره سيد الشرق الأوسط، وباعتباره الذراع القذرة لسيده الأكبر في تلك المنطقة، ومع ذلك فإن كليهما يتحدث باسم السعي نحو تحيق السلام والقضاء على الإرهاب! وبصرف النظر عن دور إسرائيل هنا، فإن كل ذي عقل يُدرِك ويرى بوضوح لا لبس فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية كان لها دور أساسي- خاصة فيما بعد الحرب العالمة الثانية- في إشعال الحروب والصراعات وتدبير الانقلابات عبر العالم. كان ذلك يتم عادةً من خلال تدابير سرية تجرى في الخفاء؛ أما الآن فكل ذلك يجري في العلن، بل في نوع من التباهي دون خجل، من خلال التصريحات التي تصدر على لسان ترامب وإدارته وذراعه في إسرائيل.

لنتأمل أولًا تصريحات ترامب الأخيرة بعد قصف إسرائيل لمقر اجتماع قادة حماس في منطقة سكنية بالدوحة، وهو عمل عدواني غادر وغير مسبوق؛ ليس فقط لأنه عدوان يستهدف من يتفاوضون من أجل تحقيق السلام مع العدو؛ وإنما أيضًا لأنه أعتداء صارخ على سيادة دولة أخرى بالمخالفة للقوانين الدولية. قال ترامب الذي يتصور أنه سيد هذا العالم: لم أكن أعلم بالضربة، ولست أنا من اتخذ هذا القرار، وإنما نتنياهو! ثم عاد وقال: إنه أبلغ القطريين بالضربة! وبعد أن كشفت التصريحات الرسمية القطرية عن كذب تصريحاته، عاد وقال: إنه أبلغ القطريين متأخرًا؛ لأن المعلومة قد وصلته متأخرة من إسرائيل في أثناء الشروع في تنفيذ الضربة، أي بعد فوات الأوان؛ ومن ثم لم يستطع إيقافها! بل قال: إنه يَعد القطريين بأن هذا الأمر لن يتكرر مرة أخرى! وحينما سُئِل: لماذا لم تتدخل قاعدة العديد في قطر- التي هي أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط- للتصدي لهذا العدوان (وهي قادرة على ذلك)، تهرب من السؤال وقال: إن إدارته سوف تصدر لاحقًا بيانًا مفصلًا عن ذلك!! هذه التصريحات المتضاربة لا تعنى سوى أمر واحد: الكذب والمراوغة، أعني المراوغة من أجل إخفاء الحقيقة، بينما الحقيقة أصبحت ظاهرة عيانًا للجميع: فمن المعلوم إن إسرائيل لا تتخذ أية قرارات من هذا القبيل إلا بضوء أخضر من الإدارة الأمريكية، ومن ترامب تحديدًا الذي يكره الفلسطينيين والعرب عمومًا؛ ولذلك فإن مندوبة إدارته في الأمم المتحدة تعلن صراحة أنها تعارض إعلان الأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين التي هي في الأصل دولة محتلة!

ولكن دعنا ننتقل من تأمل هذه الحالة العدوانية والتآمرية المليئة بالغطرسة إلى تأمل حالة أخرى مؤثرة بقوة في العالم، ولكنها تجري في هدوء ومن دون طنطنة في الطرف الشرقي من العالم، أعني في الصين وروسيا بوجه خاص. تأمل تعبير وجه الرئيس الصيني تشي بينج في الاحتفال العسكري الضخم الذي جرى مؤخرًا بمناسبة مرور ثمانين عامًا على انتصار الصين في الحرب العالمية الثانية: تجد وجهه دائمًا مائلًا قليلًا وقد ارتسمت على محياه تعبيرات الهدوء والثقة في أثناء حديثه القصير.

لقد تحدث هذا الرئيس الوقور بكلمات مقتضبة في أثناء مروره على أسلحة جيشه المهيب، وكأنه قد ترك لجيشه أن يتحدث عن قوته، وهي قوة تتطور بشكل متسارع للغاية لتنافس قوة الجيش الأمريكي نفسه. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الصين قد أصبحت الآن أكبر قوة اقتصادية مؤثرة في العالم؛ فإن ذلك يعني أن الصين هي المارد الجديد في هذا العالم، وهي مع روسيا والحلفاء من أمثال كوريا الشمالية وإيران، تشكل قوى عظمى تسهم في تغيير النظام العالمي الجديد باعتباره نظامًا متعدد القوى والأقطاب. ومع ذلك كله، فإننا لا نجد أية تصريحات على لسان تشي بينج أو بوتين من قبيل تلك التصريحات الترامبية العنترية والمتغطرسة أيضًا.

ولذلك نجد أن تشي بينج يرد على تصريحات ترامب العدوانية ومواقفه التي تتحرش بالصين اقتصاديًّا وعسكريًّا، بأقوال حاسمة مقتضبة تظهر قوة وقدرة الصين على التصدي لأي تهديد. ونجد بوتين يتفاوض مع ترامب في مسألة النزاع مع أوكرانيا، ولكنه يفرض مواقفه في النهاية على ترامب والأوروبيين، بل ينجح في استمالة ترامب من خلال معرفته بالنهج الذي يمكن أن يتلاعب من خلاله بالجميع، رغم كل العقوبات المفروضة والتي يتم التهديد بفرض المزيد منها على روسيا.

العالم يتغير الآن، ولكن الغرب لا يزال يستخدم لغة فجة في إدارة الصراعات والتعامل معها في هذا العالم، لغة المستعمر والمهيمن والذي ينظر إلى نفسه باعتباره مركز هذا العالم الذي ينبغي أن يُصاغ الآخر على غراره ويظل تابعًا له؛ وقد بلغت هذه اللغة ذروة فجاجتها وعدوانيتها الصريحة على لسان ترامب، وهذا يعني في النهاية أن الغرب الذي لا يزال يتبنى هذه اللغة قد أصبح مترنحًا يهذي بأقوال لا تعي التغير الذي يحدث في العالم، وهو تغير يحدث بالتدريج ولكنه سيفرض نفسه في النهاية.

د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة