رأسمالية المراقبة
17 سبتمبر 2025
17 سبتمبر 2025
المعتصم الريامي -
في كثير من الأحيان كان يدهشني ويخيفني قدرة التطبيقات التي أستخدمها على إظهار ما أريد من خدمات ومنتجات بسرعة ودقة هائلة، حيث إنه أحيانا لا تمر خمس دقائق من حديثي عن منتج ما حتى يظهر لي إعلانه بعدها مباشرة، وكنت أظن أن اتصالي بالإنترنت مع وجود المايكروفون ومحركات البحث وتطبيقات التواصل هي التي تمنح تلك التطبيقات كل هذه المعلومات، مع الوقت وحين اقتربت من هذا العالم أكثر، أدركت أن الموضوع أكثر عمقًا من ذلك، وأن هناك شركات تتبع كل ما يمر بمعالجات الهواتف، أي العقل المتحكم في هذه الهواتف، بل وأن هذه البيانات الدقيقة -إلى حد بعيد- يمكن شراؤها وتوجيهها بكل سهولة، مثلما تفعل أدوات تقنية متقدمة مثل MeMob+ التي تقوم بتوجيه الإعلانات بدقة، ليس فقط حسب الموقع الجغرافي والعمر والجنس ومستوى الدخل والاهتمامات والوقت الأنسب للإعلان، بل حتى على مستوى الأنماط السلوكية والشرائية وعمليات البحث، وحتى التطبيقات التي توجد في الهاتف، سواء كانت مستخدمة أو حتى تم حذفها مسبقا قبل الحملة الدعائية، هذا المستوى المتقدم من دقة البيانات واستهداف الناس مرعبٌ حقا، فهل أصبحت بياناتنا سلعة تُباع وتُشترى بمبرر راحة المستخدم وتسهيل حياته!
في خضمّ التطور التقني الهائل، أصبح العالم الرقمي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية بل أنه أصبحت لدينا شخصيات رقمية بجانب شخصياتنا في أرض الواقع، وقد قدّم لنا هذا التطور التقني الكثير من الوعود بالراحة والسهولة التي لم نحظ بها من قبل، فالتطبيقات تبسط التواصل وتجعل العالم قرية صغيرة -نسبيًا-، والخدمات الرقمية الكثيرة تتوقع احتياجاتنا وتقدم لنا المنتجات التي نرغب فيها، بكل سهولة وسرعة ودقة، بينما تعمل المساعدات الذكية على تحسين أعمالنا وتيسير مهامنا، هذا التبسيط للحياة ليس مجانيًا تماما، فخلفه نظام معقد وغير مرئي لجمع بيانات ضخمة عنّا وتحليلها واستغلالها، مما يثير تساؤلات عميقة حول التوازن الهش بين المنفعة التقنية والثمن الحقيقي الذي ندفعه مقابلها، وهو بياناتنا.
كنّا في السابق نعرّف خصوصيتنا في عالم الإنترنت هي ألا تُكشف هوياتنا حين لا نرغب في ذلك، وهي ما يعرف بالخصوصية الرقمية، وهي حق أساسي يهدف إلى حماية بيانات المستخدمين على شبكة الإنترنت. يتضمن ذلك الحفاظ على سرية المعلومات الشخصية مثل الأسماء، والعناوين، وتفاصيل الاتصال من أرقام الهواتف والبريد الإلكتروني، بالإضافة إلى معلومات أكثر حساسية مثل السجلات المالية والتاريخ الطبي، وهذه الخصوصية هي حق أساسي يمكّن المستخدمين من التحكم في معلوماتهم الشخصية وضمان أن تتعامل المؤسسات معها بمسؤولية وأخلاقية.
أما اليوم فمفهوم الخصوصية تطوّر، مع وجود استخدامات جديدة للبيانات وطرق جمعها واستغلالها، فقد ظهر مفهوم الخصوصية السلوكية، التي تمثل بُعدًا أكثر تعقيدًا وتطورًا من الخصوصية الرقمية، وهي الحق في الحفاظ على سرية أنماط السلوك الفردي في العالم الرقمي، مثل عادات التصفح، والاهتمامات، والمشتريات، دون أن يتم جمعها أو تحليلها أو استغلالها للتأثير على قرارات قد تكون مصيرية لحياة الفرد أو المجتمع، هذا المفهوم يتجاوز مجرد حماية البيانات «التقليدية» ليغطي أنماط حياتنا الرقمية التي يتم تحويلها إلى «سلعة ثمينة» يمكن تداولها استغلالًا أو بيعًا وشراء.
حينما كانت (جوجل) تواجه الكثير من المشاكل والعقبات والمنافسات الشرسة في عالم الإنترنت في بداية القرن الـ21، وبعد انهيار ما يسمى بفقاعة الإنترنت، اتجهت جوجل لتقديم الإعلانات المعتمدة على بيانات المستخدمين، وهنا -كما يرى الكثيرون- بداية عصر جديد من المراقبة.
شوشانا زوبوف الأستاذة في كلية هارفرد، أصدرت كتابًا بعنوان «عصر رأسمالية المراقبة»وهي ترى أن استغلال البيانات في العالم الرقمي كما هو الآن ليس مجرد ممارسة تجارية عادية، بل هو نموذج اقتصادي جديد بالكامل. يقوم هذا النموذج على تحويل التجارب الشخصية للأفراد -كل نقرة، وكل عملية بحث، وكل حركة على الشاشة- إلى بيانات خام، هذه البيانات، التي تبدو في ظاهرها بلا قيمة، تُجمع وتُحلل لتصبح سلعًا ثمينة يمكن تداولها وبيعها دون علم أو موافقة من أصحابها في معظم الأحيان. أو مع موافقة غير مدركة لأبعاد استغلال تلك البيانات.
يتم جمع هذه البيانات من الأنشطة الرقمية التي قد يراها المستخدم غير مهمة، مثل سرعة كتابة الكلمات، أو حركة أصابع اليد في شاشة الهاتف بل وحركة العين في مقابل الهاتف، وأوقات فتح وغلق كل تطبيقٍ وإشعار، والأماكن التي يضغط عليها المستخدم في مواقع الخرائط ومواقع التواصل مثلا. تعد هذه البيانات الضخمة «مادة أولية غنية» يتم معالجتها باستخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتكوين تنبؤات تتوقع سلوك الأفراد المستقبلي، وهي ما تسمى بالبصمات الرقمية.
والهدف من هذه المراقبة والتجميع والتحليل يتجاوز بكثير مجرد الحاجة لتوجيه إعلانات دقيقة، ففي كثير من الأحيان تستخدم هذه التنبؤات للتأثير في سلوك المستخدمين وتوجيهه حسب رغبة من يشتري أو يستغل هذه البيانات.
فبينما كان الاقتصاد التقليدي يبيع منتجات للعملاء، أصبح هذا النموذج الاقتصادي الجديد يبيع القدرة على التنبؤ بسلوك الأفراد والتأثير فيه. وبهذا، لم يعد العميل هو من يشتري المنتج، بل أصبحت بياناته هي «المنتج» الذي يتم بيعه، وتحولت حياة الأفراد وسلوكياتهم في هذا العالم إلى سلع لخدمة مصالح الشركات والدول. وكلما زادت الشركات من مراقبتها، زادت دقة تنبؤاتها، مما يؤدي إلى انتهاكات أكبر للخصوصية، وهذا يعزز بدوره نموذج رأسمالية المراقبة.
تُعد فضيحة كامبريدج أناليتيكا في عام 2018 نموذجًا تطبيقيًا صريحًا يوضح كيف يمكن استخدام آليات التتبع والبصمات الرقمية للتأثير على الواقع السياسي والاجتماعي وليس فقط للتسويق وبيع المنتجات. فقد بدأت هذه الفضيحة عندما قام الأكاديمي ألكساندر كوجان بتطوير تطبيق على فيسبوك، والذي سمح للمستخدمين بالإجابة على استبيان مقابل مبلغ مالي بسيط. وبسبب أن فيسبوك سمح بجمع البيانات بشكل مريب وقتها، لم يجمع التطبيق بيانات المشاركين فحسب، بل جمع أيضًا بيانات ملايين من أصدقائهم دون علمهم أو موافقتهم الصريحة. وقد استخدمت شركة كامبريدج أناليتيكا هذه البيانات لإنشاء «ملفات نفسية دقيقة» للملايين من المستخدمين. تم استخدام هذه التحليلات للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست). لم يكن هذا مجرد اختراق للبيانات، بل نقطة تحوّل كشفت عن الأبعاد السياسية لأخلاقيات التكنولوجيا؛ فقد أظهرت أن قوة البيانات التنبؤية وقوة رأسمالية المراقبة يمكن استخدامها لتقويض العملية الديمقراطية والتلاعب بالناخبين من خلال استهداف نقاط ضعفهم العاطفية والنفسية، بناء على بيانات من هواتفهم وحساباتهم وسلوكياتهم وبصماتهم الرقمية.
لا يقتصر تهديد الخصوصية على ممارسات جمع البيانات الحالية، بل يزداد خطورة مع الاندماج المتزايد للذكاء الاصطناعي في حياتنا. فمعالجات الهواتف الحديثة، أصبحت تتضمن تقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة. هذه التقنيات تتعلم أنماط سلوك المستخدم على الجهاز نفسه، مثل عادات استخدام التطبيقات، لإدارة موارد الهاتف وتحسين أدائه، بما في ذلك إطالة عمر البطارية مثلا. وأصبحت هذه الهواتف الذكية تبني ملفات تعريف عميقة ودقيقة عن شخصية المستخدم واهتماماته وسلوكياته وتعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه أحيانا. هذه «الذات الافتراضية» يمكن أن تصدر أحكامًا أو تتخذ قرارات تؤثر على حياة الفرد دون وعيه الكامل، مما يجعل الوضع أكثر خطورة. يضاف إلى ذلك، أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ليست محايدة وقد تكون عرضة للتحيز الخوارزمي، مما قد يؤدي إلى قرارات غير عادلة.
كما أن تقنيات مثل «التزييف العميق» تمكّن من انتحال الهوية الصوتية والبصرية للمستخدمين، مما يمثل تهديدًا جديدًا وشديد الخطورة، وقد ترى الآن شخصية قام أحدهم بتوليدها بأدوات ذكاءٍ اصطناعي تشبهك تمامًا، صوتًا وصورةً وسلوكًا!
هذا التناقض والتوتر القائم بين الراحة التي توفرها التقنية والخصوصية المنتهكة لها تداعيات نفسية واجتماعية عميقة. فبمجرد أن يدرك الناس أن كل ما يبحثون عنه أو يقولونه قد يتم تتبعه، فإنهم يمارسون رقابة ذاتية مفرطة على سلوكهم. حيث يتجنب الناس البحث عن مواضيع حساسة أو التعبير عن آراء معينة خشية أن يتم تتبعها أو استخدامها ضدهم. هذا السلوك يقوّض حرية التعبير بلا شك، ويؤثر على التفكير المستقل ويجعل الأفراد أكثر انصياعًا للأنظمة الرأسمالية التي تقوم بمراقبتهم. والبيانات التي كانت سبيلا لتوفير خيارات سهلة لهم في متناول أيديهم تصبح أدوات بيد «الأخ الأكبر» والمؤسسة التي تقوم بمراقبتهم.
لطالما انتشرت الشائعات بأن التطبيقات المشهورة مثل فيسبوك وتيك توك تستمع إلى محادثاتنا عبر الميكروفون لتقديم إعلانات دقيقة بشكل مريب وأن هذا يحدث سرًا. ورغم أن هذا الاعتقاد يعكس قلقًا حقيقيًا بشأن دقة الإعلانات التي تظهر لنا، إلا أن الحقيقة التقنية أكثر تعقيدًا وأقل اعتمادًا على التنصت و«الاستماع السري»، فهذه التطبيقات -معظمها- لا تحتاج إلى تشغيل المايكروفون سرًا من الأساس، لأن لديها آليات أكثر فعالية، وأحيانًا قانونية، لجمع البيانات التي تمكنها من معرفة اهتماماتك وتوقع احتياجاتك، وتكون أنت قد أعطيتها بنفسك موافقة مسبقة لفعل ذلك.
إن أخطر جوانب هذا الانتهاك لخصوصية الناس، هو أن هذا لا يحدث عادةً عن طريق «اختراق أمني سري» غالبا، بل باستخدامنا للتطبيقات والتقنيات التي تشرّع ذلك. فسياسات الخصوصية، التي نوافق عليها غالبًا دون قراءتها، تعد عقودًا قانونية تمنح الشركات الحق في جمع بياناته ومعالجتها واستغلالها وبيعها. فهذه السياسات غالبًا ما تكون طويلة ومعقدة ومكتوبة بلغة قانونية يصعب على المستخدم العادي فهمها، وقد يكون ذلك مقصودًا، مما يجعل الموافقة على الشروط موافقة غير مستوعبة ومدركة لحقيقة الأمر. وهذا الوضع يخلق ما يشبه «العقد غير قابل للتفاوض»، حيث تكون الموافقة على جمع البيانات شرطًا إجباريًا للوصول إلى الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، قد تُستخدم البيانات لأغراض لا يتوقعها المستخدم، حتى بعد الموافقة، كما حدث مع منصة (لينكد إن) عندما تم اختيار بعض المستخدمين تلقائيًا لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي باستخدام بياناتهم دون إذن واضح. وبهذا، تتحول سياسات الخصوصية من أداة حماية إلى أداة لشرعنة الانتهاك، مما يضعف تمامًا موقف المستخدم ويشرعن ممارسات المراقبة من قبل مؤسسات وأنظمة رأسمالية يهمها الربح والنمو فقط.
ورغم أن هناك الكثير من جهود للتحكم في استغلال بيانات الخصوصية مثل سياسات الدول الأوروبية المعروفة ب GDPR لحماية مستخدمي الإنترنت في أوروبا إلا أن العالم يحتاج لإرادة حقيقية لوقف الانتهاكات وتنظيم استخدام البيانات.
المعتصم الريامي مطور ومهتم بالتقنية
