حافة الفوضى .. سرّ مرونة الدماغ ووعيه وإبداعه
17 سبتمبر 2025
17 سبتمبر 2025
بقلم: ديفيد روبسون / ترجمة: بدر بن خميس الظفري -
تأمّل يومك الذي مضى، وتذكّر ما الذي مكّنك دماغك من إنجازه. بداية من تنظيف أسنانك إلى تناول الغداء وقراءة هذه السطور، تبدو أفكارك ومشاعرك وأفعالك كأنها ثمرة آلةٍ مضبوطة بإحكام.
إن مجرّد إخبار شخص باسمك يُعدُّ معجزةً صغيرة تنجزها إشارات كهربائية تعبر كتلةً هُلاميةً وزنها 1.3 كيلوجرام. يقول كيث هينغن، عالم الأحياء في جامعة واشنطن بسانت لويس: «أنت تُنجز إحدى أعقد وأبدع عمليات الحوسبة في الكون».
كيف نبلغ هذا القدر من التعقيد؟ سؤال حيّر الفلاسفة وعلماء الأعصاب قرونًا طويلة. تتجه الأدلة اليوم إلى تفسيرٍ مفاجئ، وهو أنّ مصدر هذه البراعة ليس الضبط المتناهي بقدر ما هو «الفوضى» الكامنة في عمل الدماغ.
يطلق باحثون مثل هينغن على ذلك اسم «فرضية الدماغ في الحالة الحرِجة». ومؤدّاها أن مادّتَنا الرمادية تعمل قرب نقطةِ توازنٍ دقيقة بين النظام والاضطراب تُسمّى «المنطقة الحرِجة»، أو بتعبيرٍ شاعري «حافة الفوضى». تظهر الحالة نفسها في ظواهر طبيعية مثل الانهيارات الثلجية وانتشار حرائق الغابات، حيث يمكن لسببٍ صغير أن يفضي إلى توابعَ هائلة. الأنظمة التي تتأرجح على هذه الحافة تخضع لقوانين رياضية صارمة، ويبدو أن دينامياتٍ مماثلة تفسّر ما يميّز عقولنا من كفاءةٍ ومرونةٍ استثنائيتين. وربما بدا لأول وهلةٍ أن إشارات الدماغ الكهربائية أبعد ما تكون عن قواعد الكوارث الطبيعية؛ غير أن كثيرًا من علماء الأعصاب باتوا يصلون إلى النتيجة نفسها. يقول كريم جِربي، عالم الأعصاب في جامعة مونتريال: «الحرِجيّة تقدّم إطارًا قويًّا لفهم وظائف الدماغ واختلالاته».
(الحالة الحرِجة/الحرِجيّة هي مصطلح في الفيزياء الرياضية يصف وضعًا يقع بين الاستقرار والانفلات؛ حيث تؤدي تغيّرات طفيفة إلى آثار كبيرة غير خطّيّة. ويُقصد بـ«حافة الفوضى» العمل عند هذا الحدّ الفاصل). تتيح هذه الفرضية التنبؤ بتأثير العقاقير المؤثِّرة في الوعي، وقد تساعد على تشخيص أمراضٍ مثل ألزهايمر بدقّةٍ أعلى، كما قد تُعين على فهم أسباب تفوّق بعض الأشخاص في الذكاء على غيرهم، وربما تفسّر مغزى النوم ذاته، وأصول نشوء الوعي، والأكثر إثارة أن بعض التقنيات التأمّلية قد تُمكّننا من دفع أدمغتنا نحو هذه العتبة أو إبعادها عنها، على نحوٍ قد يعزّز مرونتنا الذهنية.
نظرية ذات طابع كوني
يمكن تتبُّع أصول «فرضية الدماغ في الحالة الحرِجة» إلى الفيزيائي الدنماركي بير باك، الذي صاغ في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي القوانين المُنظِّمة للأنظمة الحرِجة. وجد باك أن انتقال حرائق الغابات، مثلًا، يقع على عتبة نقطة تحوّل. إذا مال النظام كثيرًا في اتجاهٍ ما، احترق النظام البيئي بأكمله سريعًا ولم يترك أشجارًا وراءه، وإذا مال كثيرًا في الاتجاه الآخر خمد كل حريق بسرعة قبل أن تتاح له فرصة الانتشار.
بدلًا من ذلك، بيّن باك أن حرائق الغابات تميل إلى أن تكون «لا متعلقة بالمقياس»، أي إن جميع الأحجام ممكنة. كما أوضح أن تواتُرها الدقيق يتبع «قانون القوّة»، فالحرائق الصغيرة أكثر شيوعًا من الكبيرة، وفق نسبة تتحدّد بعوامل مثل المناخ والتضاريس.
(«اللاتعلّق بالمقياس» يعني أن النمط الإحصائي للظاهرة يظلّ ثابتًا عند تغيير مقياس الرصد؛ و«قانون القوّة» يعني أن تواتُر الأحداث يتناقص مع ازدياد حجمها). بحلول أوائل الألفية الجديدة، بدأ علماء الأعصاب يشتبهون في أن النشاط الكهربائي للدماغ يُظهِر نسقًا مشابهًا. فخلايانا العصبية مترابطة عبر شبكات مُحكَمة من التشابكات المشبكية، وعندما «يُطلِق» عصبون ما إشارةً عصبية يمكن أن يستثير بذلك خلايا أخرى لتُطلِق بدورها. يقول جوردان أُبايرن، طالب الدكتوراه لدى كريم جِربي في جامعة مونتريال، الذي نشر مؤخرًا مقالةً تُراجِع الأدلة المتزايدة لصالح فرضية الدماغ الحرِجي: «النشاط يبني نفسه على نفسه على نحوٍ يشبه الانهيار الثلجي».
(يُستخدم أحيانًا اصطلاح «الانهيارات العصبية» للدلالة على سلاسل التفريغ الكهربائي التي تتّسع ذاتيًّا عبر الشبكة العصبية بطريقة متدرجة تشبه الانهيار الثلجي).
تبدو هذه الاستجابة المتسلسلة مثالًا لنظامٍ يمشي على الحبل المشدود بين النظام واللّانظام. لتجربة الفكرة، أخذ جون بيغز في جامعة إنديانا ببلومنغتون، وديتمار بلِنز في «المعهد الوطني الأميركي للصحة النفسية» ببيثيسدا في ميريلاند، مقاطع رقيقة من أدمغة الجرذان، وقاسا النشاط الكهربائي للعصبونات وهي تُطلِق إشاراتها تلقائيًّا داخل طبق بتري.
وجد الباحثان أن كل عصبون نشِط كان يحفّز، في المتوسط، عصبونًا واحدًا آخر فقط ليُطلِق إشارةً نتيجة لتأثير إشارة العصبون الأول، وهو رقم يُمثِّل، بحسب الحسابات الرياضية، عتبة التحوّل في الدماغ. فإذا ارتفع كثيرًا أمكن للانهيارات أن تنتشر بلا ضابط، وإذا انخفض كثيرًا خمد النشاط قبل أن يبدأ حقًّا. لقد أظهرت مقاطع أدمغة الجرذان بالضبط نمطَ «اللاتعلّق بالمقياس» وتوزيع «قانون القوّة» اللذين يميّزان سائر الأنظمة الحرِجة.
«إنّ النشاط الكهربائي في الدماغ يتراكم على نفسه كما يتراكم الانهيارُ الثلجي».
منذ ذلك الحين، كشفت دراساتٌ عديدة عن دلائل «الحالة الحرِجة» في أشكالٍ أخرى من السلوك العصبي، مثل تزامُن نشاط مناطق دماغية مختلفة. وقد لوحِظ هذا النمط في أنواعٍ كثيرة، من بينها سمك الزرد (الدانيو المخطّط)، والقطط، والقِردة، وبالطبع الإنسان.
(التزامُن هو اتّساق توقيت النشاط الكهربائي بين مناطق دماغية متباعدة، بما يسمح بتبادلٍ فعّال للمعلومات).
خلال الأبحاث، ظهرت نتائج متعارضة؛ إذ أخفق بعض الباحثين في رصد سمات «الحرِجيّة»، مثل «قوانين القوّة»، في قياساتهم للنشاط الدماغي. وبحسب هينغن، دفعت هذه السجالاتُ العلماءَ إلى استخدام تسجيلاتٍ أدقّ للنشاط العصبي وتقنياتٍ رياضية أكثر تطوّرًا لتحليل النتائج. يقول: «في رأيي، كانت المجموعات المتشكِّكة أفضل ما حدث لدراسة الحرِجيّة في الدماغ؛ لقد أرغمت المجال على الحفر أعمق».
وبالتعاون مع وودرو شو، الفيزيائي في جامعة أركنساس، راجع هينغن بياناتٍ مستخرجة من 320 تجربة قائمة، وأظهر أن النتائج المتعارضة يمكن التوفيق بينها وبين الفرضية إذا استُخدمت اختباراتٌ إحصائية جديدة لقياس «الحرِجيّة». وقد نُشرت دراستهما في يونيو بمجلة (نيورون) المرموقة في علوم الأعصاب.
ومقدارُ قرب دماغ شخصٍ ما من «نقطة التحوّل» يتحدد بعوامل شتّى، مثل ترابط الشبكات العصبية وتوازن النواقل العصبية في المشابك. يقول شو: «هناك نطاقٌ لوظيفةٍ دماغيةٍ صحيّة يقعُ حول حالة الحرِج.» وهذا ما يساعدنا على تكييف طرائق تفكيرنا تبعًا للظروف. يقول أُبايرن: «إنه يمنح الدماغ فسحةً ليُعدّل مستوى الحرِجيّة لديه ديناميكيًّا استجابةً لمواقف أو مهامّ بعينها».
الذكاء والإبداع
إن بقاء الدماغ السليم، وهو في حال اليقظة، قريبًا دائمًا من «المنطقة الحرِجة» يوحي بفوائد كبرى. أولها سعة نطاق نقل المعلومات ومعالجتها؛ فبفضل «اللاتعلُّق بالمقياس» في الأنظمة الحرِجة يمكن تمرير الإشارات عبر مسافات قصيرة وطويلة معًا، بما يتيح التواصل داخل المناطق الدماغية المختلفة وبينها. والنتيجة هي الحصول على قدرة حسابية أعظم بكثير. يوضح كيث هينغن: «بوسع الدماغ أن يستكشف فضاء الحلول بأكمله».
والتوسّط بين النظام واللانظام يعين الدماغ على التكيّف مع المواقف الجديدة. يقول كريم جِربي: «يوفّر ذلك للدماغ مقدارًا من الثبات يكفي لفهم العالم، وحيويةً ديناميكيةً تُمكّنه من الاستجابة المثلى له. نعتقد أن الدماغ يعمل قرب حافة الفوضى لأنها المنطقة المثلى للتفكير المعقّد والتعلّم واتخاذ القرار والتكيّف مع الوقائع المستجدة». ولو صحّ ذلك لتوقّعنا أن فروقًا طفيفة في قرب الدماغ من النقطة الحرِجة تؤثّر في الأداء المعرفي العام، وهذا ما وجده ناوكي ماسودا، من جامعة ميشيجان، وزملاؤه عام 2020. فقد طُلب إلى 138 بالغًا أداء اختباراتٍ لقياس «الذكاء السائل»، أي القدرة على توظيف المنطق والاستدلال في حلّ المشكلات المستجدّة بعيدًا عن الخبرات السابقة، ثم قورنت النتائج بمقاييس للنشاط الدماغي مستخلصة من تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي. وكما هو متوقّع، تبيّن أن أدمغة أصحاب الدرجات الأعلى تقع أقرب إلى الحدّ الفاصل بين النظام والفوضى مقارنةً بمن حصلوا على درجات أدنى، وهو ما يتوافق تمامًا مع فكرة أن «الحرِجيّة» تعزّز معالجة المعلومات والحوسبة الدماغية.
وتبرز المرونة المعزَّزة في «المنطقة الحرِجة» في تجربةٍ أجرتها عالمة الإدراك جانا سيمولا وزملاؤها في جامعة هلسنكي؛ إذ لعب المشاركون لعبة حاسوب تتبدّل قواعدها باستمرار، بما يقتضي تحديث الاستراتيجية كل لحظة. وكلّما اقترب نشاط الدماغ من النقطة الحرِجة تحسّن الأداء.
ويرجّح جِربي أن قرب الدماغ من النقطة الحرِجة مهمّ بشكل خاص للإبداع، وهو نمط تفكير لا تغطيه اختبارات الذكاء المعيارية. يقول: «ينبثق الإبداع من قدرة الدماغ على استكشاف أفكارٍ جديدة مع الحفاظ على قدرٍ كافٍ من البنية يجعلها ذات معنى. وقد توفّر الحرِجيّة البيئة العصبية المثلى لهذا المسار، إذ تسمح للدماغ بالتحوّل السلس بين التفكير التلقائي المتشعّب والتفكير المركَّز الموجَّه نحو الهدف».
على أن الابتعاد الكبير عن «المنطقة الحرِجة، نحو النظام الجامد أو الفوضى المُنفلتة، قد يفضي إلى اختلالاتٍ خطيرة. يقول جِربي: «صحيح أن الحرِجيّة تمنح الدماغ تفوّقه، إلا أنّ ذلك يعني أيضًا أن تحوّلاتٍ صغيرة، بسبب المرض أو الضغط النفسي أو الإصابة، قد تدفعه أحيانًا إلى حالاتٍ أقلَّ كفاءة وربما مُضرّة».
وداء ألزهايمر مثالٌ بيّن؛ إذ تُظهر دراسات عديدة أن أدمغة المصابين تتعرّض لأضرار بالغة قبل أن يظهر تدهورٌ سريع في قدراتهم الفكرية. وقد تمثّل هذه اللحظةَ بدايةَ عجز الدماغ عن البقاء ضمن «المنطقة الحرِجة»، بما يؤدّي إلى هبوطٍ حاد في إمكاناته الحسابية. يقول فنسنت زيمرن، طالب الدكتوراة في جامعة باريس-ساكلاي ومؤلف دراسة حديثة حول التطبيقات السريرية لمفهوم «الحرِجيّة»: «تأتي لحظةٌ ما، إذا نزعتَ عددًا كافيًا من العُقَد من شبكةٍ ما، يبدأ عندها منظر نشاط الشبكة ذاته في الانطفاء».
لماذا ننام؟
بدأت التداعيات المحتملة لفكرة «حرِجية الدماغ» تستقطب اهتمامًا واسعًا لدى علماء أعصاب آخرين. يقول جوردان أُبايرن: «يتزايد الاهتمام العام بوتيرة متسارعة في السنوات الأخيرة... الفكرة تنتشر». وقد أفضى ذلك إلى أطروحاتٍ أكثر طموحًا لما قد يفسّره هذا الظاهر.
يتساءل كيث هينجن، مثلًا، عمّا إذا كان النوم قد تطوّر بوصفه وسيلةً لإعادة الدماغ إلى «نقطته الحرِجة». وتُظهر دراساته على الجرذان دلائل قوية على ارتباط الإرهاق ارتباطًا وثيقًا بحرِجية الدماغ. يقول: «أقوى مُتنبّئ بما إذا كان الحيوان سيبقى يقظًا أو يخلد إلى النوم خلال الساعة التالية هو مدى قرب دماغه من الحالة الحرِجة. فكلّما اقتربت من النقطة الحرِجة زادت احتمالات اليقظة، وكلّما ابتعدت عنها زادت احتمالات النوم».
ويبدو أنّ إطالة إرهاق الدماغ تُزحزحه بعيدًا عن عتبة التحوّل، فيما يساعده النوم على إعادة الضبط والعودة إلى «المنطقة الحرِجة». من دون تلك الاستراحة لن يبلغ الدماغ حالته المثلى، وهو ما يفسّر تراجع الأداء المعرفي المعروف المصاحب للأرق. بل إن مدة النوم وجودته قد تؤثّران حتى في عملياتٍ تلقائية مثل ضبط التنفّس، كما يقول هينجن. وتشير هذه الآثار الواسعة النطاق إلى أنّ النوم قد تطوّر لمعالجة عاملٍ بنيويٍّ حاكم لعمليات الدماغ جميعها، وهو، في تقديره، قربه من النقطة الحرِجة.
ويذهب أُبايرن إلى الرأي نفسه: «إحدى وظائف النوم، وربما أهمّها، أن يتيح إعادة معايرة وصلات الدماغ لتعود ديناميكياته الشاملة إلى النقطة الحرِجة».
وقد تُخفِّف «المُساعِدات الكيميائية» مثل الكافيين من التعب عبر دفع الدماغ نحو الحالة الحرِجة، لكنّ لذلك كلفة. فقد دعا فيليب تِهولكه، زميل جِربي في جامعة مونتريال، مشاركين إلى النوم في المختبر ليلتين منفصلتين: في إحداهما تلقّوا جرعة مقدارها 100 من الكافيين، ما يعادل فنجان إسبرسو قوي، قبل موعد النوم بثلاث ساعات ثم قبلَه بساعة، وفي الأخرى امتنعوا تمامًا. ثم طُلِب إليهم ارتداء قبعة لتخطيط كهربية الدماغ مزوَّدة بأقطابٍ تقيس نشاط الدماغ الكهربائي أثناء النوم.
(تخطيط كهربية الدماغ هي تقنية ترصد الإشارات الكهربائية في القشرة الدماغية عبر أقطابٍ تُثبّت على فروة الرأس، وتُستخدم لدراسة مراحل النوم والنشاط العصبي.)
وجد الفريق أن الكافيين يدفع الدماغ باستمرار إلى الاقتراب من النقطة الحرِجة أثناء النوم. يقول جِربي، وهو أحد مؤلفي الدراسة المنشورة مطلع هذا العام: «لقد أبقى الدماغ في حالة شبه يقِظة». وقد لا تقتصر النتيجة على ليلةٍ مضطربة؛ فبتقليص وقت الاستشفاء قد يحولُ الكافيين دون ارتداد الدماغ إلى كامل طاقته مع الصباح. يضيف جِربي: «إنه يتدخّل على الأرجح في وظائف استعادة النوم».
قد تساعد «حرِجية الدماغ» على فكّ اللغز المزمن للوعي. والوعي من أعسر المفاهيم ضبطًا بتعريفٍ دقيق، غير أنّ معظم علماء الأعصاب والفلاسفة يتفقون على أنّه، في جوهره، ينطوي على «منظور ذاتي»، سواء في اليقظة أو الحلم، يتضمن مدركاتٍ أو صورًا ذهنية لها خصائص مميّزة مثل اللون والشكل.
وبحسب إحدى الفرضيات البارزة، وهي نظرية «المعلومات المتكاملة»، ينشأ هذا المنظور الذاتي من طريقة معالجة الإشارات في الدماغ واندماجها، بحيث تُنتج المحصّلةُ المتكاملة أكثرَ من مجموع الأجزاء. والمثير أنّ نماذج رياضية تشير إلى أنّ مقاييس «تكامل المعلومات» تبلغ ذروتها عندما يقترب الدماغ من النقطة الحرِجة؛ ما يوحي بأنّ هذا القرب عنصرٌ جوهري لوعينا بأفكارنا ومشاعرنا وإحساسنا بالذات.
ومن وسائل اختبار هذه الفكرة فحصُ تأثير مواد تخديرية مختلفة. فكلٌّ من الزينون والبروبوفول، على سبيل المثال، يبدو أنّه يمحو كل خبرات الوعي. أمّا الكيتامين فيُحدث حالةً «انفصالية» تقطع المريض عن العالم الخارجي من دون إلغاء الوعي تمامًا؛ إذ يمكنه أن يحلم بأحلامٍ شديدة الوضوح والإحساسِ القوي بالذات.
وفي دراسةٍ نُشرت العام الماضي، وجد أُبايرن وزملاؤه أنّ أدمغة من خضعوا للتخدير بالكيتامين ظلت قريبةً من «المنطقة الحرِجة»، في حين ابتعدت أدمغة من تلقّوا الزينون أو البروبوفول عن عتبة التحوّل. ويخلص أُبايرن إلى أنّ «ذلك يوحى بأن حرِجية الدماغ شرطٌ لازم للوعي»، مع الحاجة إلى مزيدٍ من العمل قبل التيقّن من ذلك بدرجةٍ أعلى.
معايرة الدماغ
نظرًا للدور الذي تؤدّيه «الحرِجيّة» في تفكيرنا، يَطرَح السؤال نفسه: هل يمكن تعلّم ضبط موضع الدماغ داخل «المنطقة الحرِجة»؟ أليس مفيدًا أن نُبعِده قليلًا عن هذه العتبة قبل موعد النوم، أو نقرّبه منها حين نحتاج إلى معالجة معلومات معقّدة أو إطلاق عصفٍ ذهني لأفكار جديدة؟
هينجن يعمل على ذلك فعلاً. يقول: «أُجري أنا وودى شو أبحاثا مبشرة نختبر فيها ما إذا كان بالإمكان التأثير في قرب الدماغ من الحالة الحرِجة بطريقة تعزّز التعلّم المعقّد». وهو متحفّظ بشأن التفاصيل، غير أنّه يذكر أن التجارب تتضمن «تصميم أنماطٍ للنوم»، وأنّ نتائج تجاربه على الحيوانات حتى الآن مُلفِتة.
وهناك خيار آخر هو التأمّل، مع الاحتراز لنوع الممارسة. فتمارين ساماثا، القائمة على تركيز الانتباه المكثّف في إحساسٍ واحد، مثل التنفّس، تدفع نشاط الدماغ إلى الابتعاد عن النقطة الحرِجة. يوضح أُبايرن: «هذا متوافق مع الفكرة؛ إذ تمثّل الحرِجيّة حالةً من الحساسية والمرونة القصوى، بينما تسعى ممارسةُ الانتباه المركّز إلى تنقية الذهن من المشتّتات و”تبلورُهُ“ من أجل إبراز تفاصيل محدّدة».
في المقابل، تُشجّع «فيباسانسا» أو «المراقبة المفتوحة» على وعيٍ لا يحكم على كلّ ما يمرّ في الذهن من أفكارٍ ومشاعر وأحاسيس. يقول أُبايرن: «هنا نتوقّع ارتفاع مستوى الحرِجيّة بما يجعل الدماغ أكثر حساسية للبيئة». وتقدّم دراسة جديدة لأناليزا باسكاريلّا من «المجلس القومي للبحوث» في إيطاليا قرائن مُغرية لذلك.
شملت الدراسةُ 12 راهبًا بوذيًّا من دير سانتا تشيتّاراما قرب روما. وطلبت باسكاريلّا من الرهبان ممارسة ساماثا ثم فيباسانا لمدّة 6 دقائق لكلٍّ منهما، مع قياس نشاط أدمغتهم باستخدام قبعة تخطيط الدماغ المغناطيسي، وهي تقنية شبيهة بتخطيط كهربية الدماغ، غير أنّها توفّر بياناتٍ أوسع عبر القشرة الدماغية بأكملها.
الالتهاب المزمن يُربك العقل، هكذا نُهدّئه.
تتكشف اليوم الآثار العميقة للالتهاب طويل الأمد في الدماغ، من الاكتئاب إلى الخرف، وفهمُ الآليات الكامنة يفتح الطريق لعلاجاتٍ جديدة تحمى وظائفنا المعرفية وصحّتنا النفسية.
وكما افترض الباحثون، أبعدت ساماثا الدماغَ عن عتبة التحوّل، بينما قرّبته فيباسانا منها. يقول أُبايرن، وهو أحد مؤلفي الدراسة: «تمكّنوا من جعل أدمغتهم أكثر حرِجيّة من حالتها في اليقظة الهادئة الاعتيادية». الدراسة متاحة حاليًّا بصيغة مسوّدةٍ أوليّة بانتظار التحكيم العلمي. وتوحي النتائج بأنّه مع قدرٍ كافٍ من المران يمكننا على ما يبدو تحويل نشاط الدماغ طوعًا، فنبلغ الحالة الذهنية المُثلى للمهمّة المطروحة.
يجدر التذكير بأنّ كل راهب راكم خبرةً تتجاوز ألفى ساعةٍ من التأمّل. مع ذلك قد تُيسّر تقنياتٌ جديدة هذا المسار لاحقًا. يشير جِربي، وهو أيضًا من مؤلفي دراسة التأمّل، إلى تقنية التغذية الراجعة العصبية، حيث تُعرَض للمتدرّب صورةٌ بصرية لنشاط دماغه عبر أجهزة تخطيط الدماغ الكهربائي محمولة أثناء الممارسة، ويُعتقَد أنها تُسرّع اكتساب بعض مهارات التأمّل.
وإلى أن تتوافر تلك الأدوات للجميع، لعلّنا نتعلّم تقديرَ قدرٍ من «الفوضى» في أذهاننا. لحظات الشرود الخفيف قد تكون إشارةً إلى أننا نجلس باطمئنان داخل «المنطقة الحرِجة»، مستفيدين من مزاياها.
ديفيد روبسون
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
عن نيو ساينتِست
