مع الحقيقة.. مع البراغماتية
15 سبتمبر 2025
15 سبتمبر 2025
بعد الجدل الذي دار حول كتاب (آيخمان في القدس) لحنة أرنت، كتبت مقالاً بعنوان (الحقيقة والسياسة) وضحت فيه كيف يُمكن أن تكون الحقيقة ذات سلطة مستبدة يُمكن لها أن ترهق السلطات لأنها لا تستطيع السيطرة عليها، كما وضحت فيه العلاقة بين الحقيقة من جهة والسياسة من جهة، وكيف يُمكن أن يتم إخفاء الحقيقة بما تسميه «الكذب الممنهج»، الذي يتخذه السياسي لإخفاء الحقائق لخدمة مصالحه السياسية، وهكذا يُمكن الانطلاق من مقال أرنت للقول: إن الحقيقة باقية لا يُمكن نفيها على الإطلاق، لكن ما يمكن أن يحدث عند دخولها للحقل السياسي هو أن تخفى فحسب، بأساليب مختلفة ولأسباب مختلفة كذلك.
هذه الحقيقة قد تكون واضحة وضوح الشمس للعيان، لكن يُتعمد إخفاؤها وتغليفها باللغة والشعارات للبقاء في منطقة الراحة من الواجب الأخلاقي والسياسي -والبراغماتي في كثير من الأحيان كما يجادل هذا المقال في فقراته اللاحقة- الذي تحتمه وتفرضه عليه هذه الحقيقة. وهكذا يتم استخدام البراغماتية والواقعية السياسية باعتبارهما غلافين لإخفاء الحقيقة، وإظهار شعارات متعلقة بالسلام والاستقرار والأمان، على الرغم من أن الواقع قد يظهر بوضوح عكس ذلك تمامًا.
هذا ما حدث في العلاقات العربية-الإسرائيلية، ففي كثير من الأوقات والتجارب السابقة كان هناك نوع من الركون إلى محاولة صنع حالة «سلام» مع إسرائيل، إلا أن كل هذه التجارب باءت بالفشل، لا بسبب الصياغة القانونية أو السياسية أو عدم الاتفاق في بنود حالة السلام المدعاة هذه، لكن بسبب عدم إيمان إسرائيل بها أساسًا، إذ على الرغم من رغبة إسرائيل الانخراط في الشرق الأوسط وأن تكون جزءًا منه، لكن هذا الشرق الأوسط يجب أن يكون كما تريد هي لا كما هو في الواقع، ولهذا حافظت على مبادئها التوسعية وسياساتها الخارجية الجالبة للاستعداء، فبقيت حالات السلام هذه عبارة عن قبول كامل من الطرف العربي، وقبول شكلي من الجانب الإسرائيلي مع تناقض الممارسات الداخلية والخارجية لها، فلم تتوقف إسرائيل عن تهديد الأمن المصري والأردني على سبيل المثال، سواء من ناحية محاولة ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء في الحالة المصرية مثلا، أو من جانب التصريحات المتعلقة بإسرائيل الكبرى في الحالتين المصرية والأردنية مثلا آخر، والأمثلة والسياقات تتعدد وتتكاثر.
جنحت الدول العربية إلى مسارين أساسيين، هما إما التطبيع مع إسرائيل على ما هي عليه، كما حدث في الاتفاقيات الإبراهيمية، وإما المطالبة بحل الدولتين وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وفي المسارين لم تكن إسرائيل هي الجانب المؤتمن، فلم يستفد المطبع من تطبيعه، ولم -ولن أيضا بطبيعة الحال- توافق إسرائيل على حل الدولتين، وهذا ما تمت مناقشته في مقالات سابقة، ولم تجنح الدول العربية لهذين المسارين، إلا من خلال الترويج لمسألة توازن القوى، وأن الحروب مع إسرائيل باءت بالفشل، فاستُخدمت مسألة توازن القوى للترويج لحالة السلام مع إسرائيل وبأن هذا أكثر استقرارًا وأمنًا للمنطقة العربية، على الرغم من أن كل السياسات الإسرائيلية تفيد بعكس ذلك تمامًا، وبأن الوجود الإسرائيلي بذاته هو واحد من أهم المشاكل الأساسية، والأسباب الرئيسة في عدم استقرار المنطقة، ولذلك أصبح الجمود أو التطبيع بذريعة «الواقعية السياسية» هو المسيطر على سياسات الدول العربية، لكن هناك حقيقة بقيت واضحة وإن حاولت كل حكومات العالم إخفاءها، تدرك شعوب المنطقة كلها هذه الحقيقة دون أي شوائب، وباتت كثير من شعوب العالم تدركها كذلك، وهي أن إسرائيل هي المشكلة، وجودها في قلب منطقة لا تتشابه معها في أي شيء، إضافة لسياساتها العنجهية، تزيد من ظهور هذه الحقيقة ويقينيتها، وعلى الرغم من أنها حاضرة في الأذهان، إلا أن الخطابات الرسمية تحاول إخفاءها وتحييدها، بالدوافع سابقة الذكر.
في الضربة الإسرائيلية الأخيرة على قطر، وانتهاك دولة ذات سيادة، وسعت إسرائيل دائرة صراعاتها التي غالبًا ما تكون في دول معينة، وتجاوزت بذلك جميع «الحدود» السياسية والعسكرية والدبلوماسية، وما كان يُعتقد أنه آمن وبعيد عن الصراع، أصبح في عصر يوم واحد، في قلب الصراع، فلا يُمكن بعد هذه الضربة أن تعتقد دول الخليج بُعدها عن التوسع الإسرائيلي، أو أنها محمية بالقواعد الأجنبية، فحين وجهت الضربة للدوحة، لم تكن الدوحة وحدها التي ضُربت، بل أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط كذلك، فإن كان وجود هذه القاعدة كعدمه، ولا فائدة منها في صد أي أخطار خارجية، فكيف يكون الوضع لبقية الدول؟ ولم تغنِ في ذلك الأموال والسياسة والدبلوماسية والخطط الاستراتيجية في ردع إسرائيل من توجيه هذه الضربة، وهنا يتولد سؤال مهم يتعلق بمدى نجاح استراتيجيات الأمن في دول الخليج وفي المنطقة العربية؟ وسؤال حول البراغماتية التي كانت الذريعة للاكتفاء بالخطابات اللفظية والتنديد ضد الممارسات الإسرائيلية في المنطقة، فهل البراغماتية والواقعية السياسية تقضي بأن يبقى الحال على ما هو عليه أم يكون العكس تمامًا هو لب البراغماتية السياسية وحفظ الأمن؟، لم تبقِ إسرائيل أي احتمالية لأن يكون أي خطاب سلام ناجحًا أو ممكنًا في اللحظة الراهنة، لأن الضربات الأخيرة بشتى أنواعها وأشكالها، سواء الضربة في قطر، أو التي استهدفت سفينة من أسطول الصمود في تونس، أو تلك الضربات في اليمن، أو في سوريا، ولبنان، وإيران، فضلاً عن الإبادة الجماعية والمجزرة البشعة التي تحدث في فلسطين، تدل على أن أي خطاب سلام أو إمكانية التوصل لاتفاق مع إسرائيل هو في خانة المستحيل، وتلاعب لغوي فحسب، فلا الدول المطبعة سلمت من التهديد، ولا الدول التي تنادي بحل الدولتين سلمت، ومع بقاء إسرائيل في المنطقة، فإن عجلة تصاعد التهديدات على الأمن في كل دولة من الدول يتزايد ويتصاعد، ويصبح أمرًا وجوديًا، لذلك فهذا لا ينطبق على الحكومات فحسب، بل حتى على أولئك الذين يعتقدون أنهم مهتمين فقط بـ«أمن بلادهم وعدا ذلك لا يهم»، لأن أمن بلدانهم أصبح مهددًا بشكل واضح وعلني في وضح النهار، وأن أي تحرك دبلوماسي لأي جهة تعتبرها إسرائيل عدوًّا سواء كانت دولة أو ما دون الدولة، يعرض بلدهم -أيًا كانت- للقصف الإسرائيلي في أي ساعة وبأي سلاح، فلم يعد الأمر ترفًا أو مناصرة عابرة لقضية عمرها أكثر من سبعين عامًا، بل أمر وجودي يهدد كل جانب من جوانب الحياة اليومية.
على الرغم من أن هذا المقال سينشر بعد انتهاء القمة العربية المنعقدة في الدوحة، وعلى الرغم من قلة أملي فيها، إلا أن هذه كلمة يجب أن تقال: على القمم العربية، بل كل دولة في المنطقة، أن تختار أن تكون مع الحقيقة ومع البراغماتية، أن تختار أمنها القومي الذي تهدده إسرائيل في كل لحظة من اللحظات، فما كان ظاهرًا للشعوب، والحكومات كذلك وإن أنكرت، أصبح ظاهرًا للجميع الآن، ومن يجادل بغير ذلك، فقد لبس النظارة الخاطئة وعليه أن يخلعها حتى يتخلص من الوهم، فها هي الحقيقة تجلس بكل استبدادها وجبروتها على النفوس والعقول، ومع هذا الانكشاف، لم يعد لأي خطاب سلام معنى، بل يُمكن أن يخسر القائل به ثقة السامع الكاملة، مما يُمكن أن يولد مشاكل أخرى داخلية، الجميع في غنى عنها، لذلك يجب الانتقال من خطاب السلام المستحيل إلى المواجهة الواقعية الموحدة مع إسرائيل، واكتشاف الإمكانات لإعادة بناء موقف عربي قائم على أساس القوة وفرض الكلمة، لا على أساس الخطابات اللفظية والشعارات التي لن تقدم في المسألة أي شيء سوى أن توضع في الأرشيفات المؤرخة.
تحتم البراغماتية اليوم على دول المنطقة عمومًا، والدول العربية خصوصا، أن تقف في صف واحد لمواجهة العنجهية الإسرائيلية، فالحقائق مهما حوصرت ستنكشف مع الزمن، والتاريخ لا يرحم أحدًا، فالآن -مع جميع الأسباب الظاهرة للعيان ومع التحركات العالمية الشعبوية ضد إسرائيل- هو وقت الوقفة الواحدة التي تحفظ أمن دول المنطقة وتبعدها عن التهديد المستمر، فلا القواعد الأجنبية ولا العلاقات الدبلوماسية ولا التحرك في الأمم المتحدة أثبت جدواه، وكلها انصبت في النهاية في مصلحة إسرائيل وحدها، ولم يبقَ إلا أن تتحد سياسات الدول مع الرغبات الشعبية، للسعي نحو إنهاء التهديد، وإلا فلا أحد آمن والجميع معرض لأن يصبح هدف إسرائيل التالي في أي لحظة وبأي طريقة.
جاسم بني عرابة من كتاب الرأي في جريدة عمان
