منطق العدالة أم القوة؟
13 سبتمبر 2025
13 سبتمبر 2025
ما الذي نقرؤه من الضربة الجوية الإسرائيلية الأسبوع الماضي لمقر وفد حماس التفاوضي بالدوحة؟ تحديدًا فيما يخص الحالة الراهنة لعالمنا المعاصر -هذا ولمّا يكتمل العام بعد على الفترة الرئاسية الثانية لدونالد ترامب-، وهل يمكننا فصل تلك الحادثة عن كل ما حدث ويحدث في الأسبوع نفسه من حادثة إطلاق النار في حافلة بالقدس الذي أودى بحياة عدة إسرائيليين، إلى حادثة إطلاق النار على المناصر المتحمس لدونالد ترامب تشارلي كيرك في يوتاه بالولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بداية انطلاق حملته للمناظرات والتي كان من المخطط لها أن تطوف الجامعات الأمريكية تحت عنوان (الأمريكان عائدون) مع لافتة كتبت بالخط العريض prove me wrong (أثبتوا خطأي)؟ والمفارقة اللافتة أنه قتل تحت هذه اللافتة كأنما في إثبات غير منتظر ولا متوقع؛ فهل يمكن إخراج كل ذلك، وغيره من كونه ارتدادات للسياسة الأمريكية والإسرائيلية؟
شهدنا يوم الجمعة المنصرم كذلك تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعلان حل الدولتين في فلسطين بـ١٤٢ صوتًا، فيما عارضت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل هذا القرار الأممي، وهذا مشهد يمكننا أن نستشف منه كم أضحت هذه السياسة المتغطرسة بقوتها معزولة أكثر فأكثر عن المجتمع الدولي ومساره الساعي للسلام والاستقرار والنمو بدل الفوضى والحروب والخراب؟ كما علينا ألا ننسى في هذا السياق عربيًا أن هذا إنجاز دولي يحسب لجهود المملكة العربية السعودية لصالح القضية الفلسطينية؛ ذلك أن بعض الدوائر الإعلامية المتأثرة بالدعاية الصهيونية العالمية لا تكف عن تصوير الوضع بالمقلوب.
إن ما سعت وتسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل هو تغليب سياسة غطرسة القوة مقابل العدالة والقانون والأخلاق. وهذه السياسة لا تفضي إلى سلام؛ فلا سلام يفرض بالقوة ما دام يفتقر إلى الإيمان، ولن تجني إسرائيل من استمرار عدوانها وجريمتها واستعراض قوتها العسكرية أمنًا لها أو لمواطنيها سواء في الداخل أو الخارج، بل ما تجنيه كما هو واضح هو العزل الدولي والانقسام الداخلي.
والسؤال اليوم هو ألم يحن الوقت -خاصة في دولنا العربية والخليجية- لإعادة ترتيب الاستراتيجيات والأولويات، وتحديد مصادر الخطر المباشرة المحدقة بها وبمستقبلها واستقرارها؟ فلن تنعم الدول العربية بشيء من ذلك ما دامت إسرائيل تريد إملاء إكراهاتها السافرة من موقع قوة تستشعره بأسلحتها الغربية ودعمها الأمريكي والغربي، وعلى المنطقة ككل والخليجية خاصة بناء موقف دولي موحد لفضح ما تشكله إسرائيل اليوم من خطر وتهديد للأمن والسلم العالميين. وليست حركة حماس ومقاومتها في هذه الدوامة الإسرائيلية -لو أدركنا- غير نتاج مباشر لسياسات إسرائيل العنصرية، والتطهير العرقي الذي انتهجته إسرائيل وما زالت تمارسه في فلسطين، ولعلها تطمح لتصديره للخارج كذلك.
إن ما حدث في قطر هو ما كانت تنذرنا به من قبل الضربات والهجمات المتعددة على اليمن، وما استفز اليمنيين وجماعة الحوثيين في اليمن إنما هو ردة فعل مباشرة على حجم الجريمة التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في غزة، ولكن إسرائيل تتخذ ذلك حجة لتأجيج النزاع وتوسيع رقعة الصدامات، حتى استباحت إسرائيل لنفسها الأجواء العربية، ولا يبدو أنها ستتوقف عند هذا الحد.
لعل ما حدث هو فرصة مهمة -وربما أخيرة- لمراجعة وإعادة النظر في الاتجاه السياسي الذي حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على دفع حلفائها العرب إليه، وهو الاتجاه الذي زاد اندفاع بعض الساسة والقيادات العربية إليه بعد اتفاقيات وادي عربة ١٩٩٤م لنيل الحظوة الأمريكية من خلال التودد لإسرائيل الخفي أولًا، والعلني وشبه العلني لاحقًا، ولكن كل ذلك كما يمكن إدراكه لم يحقق الأمن ويحترم السيادة ويحقق الاستقرار من اختراقات إسرائيل. وهذه الضربة الجوية الإسرائيلية الأخيرة على الدوحة لها مقدمات شبيهة إذا تذكرنا عملية اغتيال القيادي محمود المبحوح في دبي عام ٢٠١٠م، مثلما أن الضربة الإسرائيلية على إيران في يوليو هذا العام سبقها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية العام الماضي في يوليو ٢٠٢٤م، وليس هذا بخارج عن سياق واحد وسياسة واحدة.
ما تسعى إليه إسرائيل بضربتها في الدوحة هو باختصار ما تنشده منذ زمن، وهو تدمير إمكانية الحلول، وكل الطرق المفضية إليها دون اعتبار لأي أطراف أخرى، أو أي علاقات سياسية أو توازنات. وهذا بالطبع يكشف عن عمق المأزق الإسرائيلي والسياسة الإرهابية التي تتبعها، ومدى انفصالها عن الواقع، لكنه في نفس الوقت يوضح بكل جلاء لبقية الأطراف ودول المنطقة الطريق الذي تمضي فيه إسرائيل، وتسعى لفرضه بالقوة على المنطقة العربية بأكملها. وما اختراقاتها المتكررة للأجواء السورية واللبنانية والمياه الإقليمية التونسية الأخيرة إلا غيض من فيض، وستستمر إسرائيل على نهجها التدميري هذا؛ لأنها لا تجد غيره وسيلة للبقاء. ومن الخطأ التسليم لها هي وأمريكا بذلك؛ لأن النتيجة ستكون باختصار كارثية ليس على المنطقة فحسب، بل على العالم بأسره.
إن ما حدث يقول: إن على الدول العربية، والخليجية منها بالأخص بناء موقف دولي موحد وحازم مع القضية الفلسطينية، وضد إسرائيل، وحشد كل الجهود والتحالفات الدولية الممكنة للوقوف في وجه مخطط إسرائيل لاستباحة الأجواء بطائراتها وفق مخاوف ومخططات وأمزجة رؤسائها، وذلك قبل أن تقع الفأس في الرأس.
كما أن ما حدث هو دعوة للبنانيين في بيروت لمراجعة موقفهم تجاه سلاح حزب الله؛ لأن ميزان القوى هو وحده المنطق الذي تدين به إسرائيل، ونزع سلاح الحزب الذي عمل منذ تأسيسه على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للمناطق اللبنانية هو في جوهره استسلام لإسرائيل، وهو ما تنشده إسرائيل منذ بداية حروبها المتوالية على لبنان منذ ١٩٧٨م إلى هذا العام. وعلينا ألا ننسى أن حزب الله نفسه إنما تكون ونشأ كردة فعل على استباحة إسرائيل الأراضي اللبنانية؛ فإسرائيل بمنهجها الإرهابي سعت دوما لتدمير المدن والقرى، وترويع المدنيين من أجل إخضاعهم بالقوة لمنطق صعودها الأعوج. ووجودها بهذا الشكل وهذا التاريخ الملطخ بالجرائم هو تهديد مستمر لكل جيرانها، ونزع أي سلاح أو وضعه جانبًا هو تسهيل للهجمة الإسرائيلية القادمة التي لن تفتقر إسرائيل حينها إلى تبريرات كلامية تسوقها لتسوغ لنفسها جريمتها ما دامت دولة لا تسمع غير صوت مخاوفها وأطماعها.
هكذا فإن الدول الإسلامية التي ستجتمع الأسبوع الجاري في الدوحة مدعوة للإصغاء جيدًا لصوت ضمير العالم الأخلاقي والإنساني الذي يصدح في كل مكان من الأرض اليوم؛ كي تدرك ما تشكله دولة إسرائيل اليوم من تهديد للإنسانية بأسرها. لقد تأخر الوقت كثيرًا، وقد حان أخيرًا أن تتحد كل الجهود لتشكل كتلة ضغط دولية وثقلا سياسيا أكبر في مواجهة العنجهية والغطرسة الإسرائيلية التي تدوس من شدة ظلاميتها وعماها كل الحدود والمبادئ الإنسانية.
التاريخ أكبر دليل على أن مسار القوة المتغطرسة لن يفضي إلا إلى الدمار الذاتي، وهذا الدرس التاريخي عن عودة نصاب العدالة والقانون مهما طال غيابه يظل يكرر نفسه كل قرن تقريبًا، ومن الواضح أن هذا القرن لن يكون الاستثناء مهما تعاظمت المغريات المادية والاقتصادية؛ فما دام العالم مبنيًا في أساسه على الخير -كما استنتج سقراط- فإن كل أفعال الشر مهما بلغ تعاظمها وغرورها الذاتي ستعود في النهاية صاغرة لتخدم الخير.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
